أي تنمية ممكنة تحت الاحتلال؟

بقلم: هاني المصري

هل يمكن تحقيق التنمية تحت الاحتلال، أو ما هي التنمية التي يمكن تحقيقها تحت الاحتلال؟.  بالرغم من مرور عشرات السنين على وقوع الاحتلال لا تزال الإجابات مختلفة عن هذا السؤال بناء على وجهات النظر المختلفة، بين من يرى أن فلسطين تمر بمرحلة "عملية السلام" وبناء الدولة كطريق لإنهاء الاحتلال، وبين من يرى أنها لا تزال تمر في مرحلة تحرر وطني رغم الازدواج الحاصل ما بين: مهمات التحرر الوطني والديمقراطي الناجم أساسًا عن إقامة حكم ذاتي تحت الاحتلال، والوهم بإمكانية تحويله إلى دولة من خلال المفاوضات وإثبات الجدارة وبناء مؤسسات الدولة تحت الاحتلال.

"التعاون من أجل التنمية في فلسطين: قيود وآفاق" كان عنوان المؤتمر الذي عقدته "مؤسسة التعاون" بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على تأسيسها.

من أفضل من "التعاون" لتناول هذا العنوان، وهي المؤسسة التي أنفقت كما جاء في كلمة الدكتورة تفيدة الجرباوي في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر منذ تأسيسها 500 مليون دولار، أكثر من 40% منها على التعليم.

كثيرة هي المداخلات والأفكار والمعلومات المفيدة التي طرحت في المؤتمر، ولا يمكن التطرق إليها كلها في هذا المقال؛ ما يفرض نوعًا من الانتقائية التي لا تقلل من أهمية ما ومن لم يتم الإشارة إليه في هذة التغطية السريعة.

افتتح فيجي براشاد، وهو مؤرخ وصحافي ومعلق من الهند، مداخلته بسؤال حول إمكانية إقامة اقتصاد تحت الاحتلال، وأجاب باستحالة ذلك، لأن إسرائيل تلحق الاقتصاد الفلسطيني باقتصادها، وتضمن أن يخدم مصالحها بالطريقة ذاتها التي ألحقت فيها بريطانيا الاقتصاد الهندي باقتصادها. إضافة إلى ذلك، يضاف إلى أن الاحتلال الإسرائيلي ليس احتلالًا تقليديًا يهدف إلى الربح واستغلال البلد المحتل فحسب، وإنما هو جزء من مشروع استعماري إجلائي استيطاني عنصري يهدف إلى طرد أصحاب البلاد الأصليين، وبالتالي القضاء على مقومات الحياة، وأهمها طبعًا المقومات الاقتصادية، فما يفعله الاحتلال هو تدمير للاقتصاد الفلسطيني وليس مجرد إلحاقه باقتصاده.

وأضاف براشاد بأن ثمة القليل الذي يمكن عمله لتحقيق التنمية للفلسطينيين من دون تفكيك وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وتساءل: "كيف يمكن للفلسطينيين أن يخططوا لمستقبلهم عندما تكون السيطرة على حياتهم مرهونة بأهواء الإسرائيليين؟". وخلص إلى أن المشكلة الحقيقية التي تواجهنا هي بكل بساطة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، وختم مداخلته بالقول: "هل يعني ما سبق أن البدائل غير ممكنة؟" وأجاب: "لا، بل على العكس من ذلك، فأعمال الكفاح الشعبي والحالات الاجتماعية المبتكرة على امتداد العالم وطوال التاريخ قدمت ودللت على إمكانية بزوغ عدة أفكار وسياسات بديلة".

بدوره، أكد الدكتور علي فخرو، الخبير في شؤون الصحة والتربية والثقافة والسياسة، على أن الحديث عن أي تنمية، سواء جزئية أو شاملة لمجتمع خاضع للاحتلال لا معنى لها، ومع ذلك شدد على أن ما لا يدرك جله لا يترك كله، لأن النضال من أجل التحرر والاستقلال يحتاج إلى تنمية تناسبها، وأن التنمية المستدامة بحاجة إلى عملية مجتمعية إرادية تسعى إلى إحداث التغييرات الضرورية، وأن تكون شاملة إلى جانب تحقيق النمو الاقتصادي والتوزيع العادل لثروات المجتمع، وأن تكون معتمدة بقدر المستطاع على الإمكانيات الذاتية ومستقلة نسبيًا عن الهيمنة الخارجية، وأن يخطط لها وتدار وتقيم دوريًا، وتعدّل بكفاءة عصرية عالية مع خضوع مسارها لإشراف مجتمعي ديمقراطي شفاف. وقال فخرو إن هذة النقاط التي تحتاج إليها التنمية في كل قطر عربي، تحتاج إليها التنمية في فلسطين بشكل مضاعف؛ بسبب الاحتلال الاستعماري الاستيطاني الذي يريد إبقاءها ضعيفة تابعة معتمدة على ما يجود به من قطرات كافية فقط لإبقائها على قيد الحياة.

لا يمكن الكتابة عن المؤتمر من دون الإشارة إلى المداخلة المهمة التي قدمها الدكتور خليل الهندي، حيث أطلق صرخة مدوية جاءت بمثابة إنذار مبكر مفاده بأن أحوال التعليم إذا بقيت عندنا على حالها فإن كل جامعاتنا ستصبح مثل جامعة القدس المفتوحة، ودعا إلى إعطاء التعليم ما يستحقه من اهتمام، وقدم اقتراح بحيث يتم الاستثمار الحقيقي في جامعة أو اثنتين، لتكون أو تكونا على أعلى مستوى عالمي، وتساهم أو تساهما في رفع مستوى التعليم. وانتقد الهندي المطالبة بأن تلعب الجامعات دورًا تدريبيًا، أو أن يرتبط التدريس فيها باحتياجات السوق، لأن هذا يهبط بدور الجامعة التي عليها أن تكون منارة العقلانية والديمقراطية وتشجيع المبادرة والإبداع والاستقلالية، حتى تساهم في نهضة البلد والاهتمام بقضايا أكثر أهمية. 

 

عودة الروح

 

انتقل إلى مداخلة الدكتور فضل النقيب  التي كانت المحفز وقبل أي سبب آخر لكتابة هذا المقال.  لقد تفاعلت معها عاطفيًا وعقليًا، وشعرت حقًا "أن الدنيا لسا بخير"، وأن هناك بقايا قوية وفاعلة لزمن النهوض والثورة والحب، وأن الاقتصاديين الذين أوجعوا رؤوسنا بأنه لا يوجد شيء اسمه "اقتصاد صمود ومقاومة وتحرر وطني" وأن لا اقتصاد بعيدًا عن اقتصاد السوق والليبرالية الجديدة والعولمة والتجارة الحرة؛ هناك ما يدحض أقوالهم بشكل علمي وعبر تقديم بديل عملي.

لقد بين النقيب أن الخطط التي اعتمدت في خطاب التنمية كانت ست منذ العام 1982 وحتى العام 2012، وهي بدأت بعنوان التنمية من أجل الصمود (1982-1987)، ثم التنمية لدعم المقاومة (1988-1990)، ثم التنمية من أجل السلام (1991-2000)، ومن أجل المقاومة مرة أخرى (2001-2003)، ومن أجل الإغاثة (2004-2006)، وأخيرًا من أجل بناء الدولة (2007-2012).

وما جاء في خطط التنمية من أجل الصمود والتنمية لدعم المقاومة وفي البرنامج العام لإنماء الاقتصاد الفلسطيني للفترة (1994-2000)، الذي بني على أساس أن السلام يعني دولة فلسطينية مستقلة دون تدخل من إسرائيل، وهذا لم يحدث طبعًا؛ لا يزال صالحًا في جوهره للخطط المستقبلية خلافًا لما جاء في خطتي التنمية من أجل السلام وبناء الدولة.

وعلى سبيل المثال، جاءت في خطة التنمية الأولى بأن علاقات السوق الحر في الواقع الفلسطيني تمثل علاقات القوة التي كرسها الاحتلال، وبالتالي فإن النمو الاقتصادي في نطاق هذة العلاقات سيقود إلى "الثراء الفردي والفقر الوطني"، وهذا سيؤدي إلى زيادة التبعية للاقتصاد الإسرائيلي، و"بعد ثلاثين عامًا على هذه الخطة حصل ما توقّعَته وحذرَت منه بالضبط". فالمطلوب كان تكريس نهج التنمية من أجل الصمود المبني على أسس ومعايير مرجعية المشروع الوطني، وضرورة تخصيص أموال الدعم في تمويل العجز الذي ينشأ من تكاليف نهج التنمية وفق المعايير الوطنية وليس وفق معايير السوق.

وكان يجب أن تكون مرجعية التنمية الأولويات الآتية: دعم الزراعة، والصناعة، والمؤسسات الوطنية والاجتماعية والثقافية التي تعزز إمكانيات مقاومة الاحتلال المادية والمعنوية، ودعم الجامعات والبحث العلمي، والتكافل الأسري، ومقاطعة البضائع الإسرائيلية، ومقاطعة العمل في الاقتصاد الإسرائيلي، ومقاطعة إسرائيل على كل المستويات والأصعدة.

إن البحث عن التنمية من أجل السلام من دون إعطاء الأولوية لإنهاء الاحتلال أدى إلى الوضع الذي نحن فيه، ولم يعد واضحًا فيه ما هو المشروع الوطني، وما هي التنمية التي نحتاجها؟، وأصبحنا أبعد عن تحقيق أهدافنا، وأكثر فقرًا وتبعية وتخلفًا، وتراجعت مستويات التعليم والصحة، وعلى كل المستويات والأصعدة.

من الأشياء الملفتة التي قالها النقيب إن الاستيطان في فترة الانتفاضة الثانية كان في أدنى معدلاته، وقال إن الدول التي كانت محتلة واستقلت ولم تتبع السياسات المناسبة التي تقوم على توفر الإرادة السياسية والاعتماد على الذات وفك أواصر التبعية التي استمرت رغم الاستقلال لا تزال كما كانت وأسوأ، أما الدول التي رفضت نظرية "رفس السلم" التي تقوم على إصرار الدول المتقدمة على التجارة الحرة واقتصاد السوق والخصصة  ورفع  الأسعار وعدم حماية منتجاتها وسوقها هي التي تقدمت.  ولقد حذر من الاعتماد على اقتصاد المعرفة وإهمال الصناعة والزراعة التي كانت حصتها 17.5% في العام 2008، بينما كانت 36.8% في العام 1994، و40.6% في العام 1968، والمعدل العالمي لحصولهما هي 30%، وفي البلدان ذات الدخل المتوسط والمنخفض 46%.

وأخيرًا، أجاب النقيب عن سؤال طرحه الدكتور ممدوح العكر حول من سيتبنى تطبيق الأفكار والخطط التي تقود فلسطين نحو المستقبل؟، بقوله: إن القيادة والفصائل القائمة فشلت ولا تريد أن تتغير أو تتعلم أو تجدد من خططها وسياساتها وأدواتها، ولا تتعلم  من أخطائها، ولا فسح الطريق لغيرها، لذلك لا بديل عن المراهنة على الشعب والرأي العام الذي إذا اقتنع بالبديل سيقوم بفرضه ولو بعد حين.

[email protected]