لقد أكدت اتفاقية جنيف الرابعة بشات حماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب على سريان إحكامها وقت النزاعات المسلحة فنصت على انه"علاوة على الأحكام التي تسري في وقت السلم, تنطبق هذه الاتفاقية في حالة الحرب المعلنة أو في حالة نزاع مسلح ينشب بين طرفين أو أكثر من الأطراف السامية المتعاقدة حتى لو لم يعترف أحداهما بحالة الحرب". كما تنطبق الاتفاقية المذكورة والبروتوكول الأول المضاف إليه على حالات النزاعات المسلحة الدولية المتعلقة بكفاح الشعوب ضد السيطرة والاحتلال الأجنبيين أو النزاعات كما حددت المادة 4/1 من الاتفاقية المذكورة الأشخاص المشمولين بالحماية فنصت على أنهم " الأشخاص الذين يجدون أنفسهم في لحظة ما وبأي شكل كان في حالة قيام نزاع مسلح أو احتلال تحت سلطة طرف في النزاع المسلح (المواطنين الأجانب المتواجدين في الإقليم المحتل) مواطني دولة مؤقتة أو أفراد القوات المسلحة.
يبدأ سريان الاتفاقية المذكورة منذ اللحظة التي تبدأ فيها العمليات الحربية بشكل فعلي, بصرف النظر عما إذا كانت هذه العمليات معلنة أو غير معلنة أو اعتراف بها احد الأطراف المتعاقدة أم لم يعترف.فقد نصت المادة السادسة من اتفاقية جنيف الرابعة على التالي:" تطبق هذه الاتفاقية بمجرد بدء أي نزاع أو احتلال وردت الإشارة إليه في المادة 2. يوقف تطبيق هذه الاتفاقية في أراضي أي طرف في النزاع عند انتهاء العمليات الربية بوجه عام. يوقف تطبيق هذه الاتفاقية في الأراضي المحتلة بعد عام من انتهاء العمليات الحربية بوجه عام.الأشخاص المحميون الذين يفرج عنهم أو يعادون إلى الوطن أو يعاد توطينهم بعد هذه التواريخ يستمرون في الانتفاع بالاتفاقية في هذه الأثناء".
يتضح من نص المادة السادسة المذكورة أعلاه انه يتوجب الشروع بتطبيق أحكام الاتفاقية حالما يتم اجتياح أراضي الغير من قبل القوات الأجنبية واحتكاكها مع سكان هذه الأراضي من المدنيين وذلك في سبيل توفير الحماية لهم بموجب الاتفاقية ويتوقف تطبيق أحكام الاتفاقية عند انتهاء العمليات الحربية بوجه عام وعند انتهاء الاحتلال في حالة الأراضي المحتلة.
مما سبق يتضح سريان أحكام اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 واستمرار تطبيقها ما دام الاحتلال قائما من جانب آخر يقتصر دور الاتفاقية على حماية المدنيين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة دون غيرهم.
ا- الموقف الرسمي الإسرائيلي من تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
اتفاقية جنيف الرابعة بشان حماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب تم اعتمادها وتوقيعها من قبل إسرائيل عام 1951 وفور احتلال القوات الإسرائيلية للأراضي الفلسطينية عام 1967 باشر القادة العسكريون آنذاك إصدار البلاغات والأوامر العسكرية لتنظيم الأوضاع الناشئة عن قيام إسرائيل باحتلال أراض تابعة لجيرانها العرب , وإرساء الأساس القانوني له.فطبقا للبلاغ العسكري رقم 2, أعلن حاييم هرتسوغ القائد العسكري للمنطقة (الضفة الغربية) عن توليه كافة الصلاحيات ليضع بذلك كافة السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية بيده.
وأوضحت الأوامر الصادرة عن القائد العسكري للضفة الغربية في الأيام الأولى من الاحتلال التوجه الرسمي الإسرائيلي الذي يعتبر الأراضي التي وقعت تحت السيطرة الإسرائيلية أراض محتلة ينطبق عليها القانون الدولي, بما فيه أحكام اتفاقية جنيف الرابعة. وللتأكد على ذلك تم تضمين البلاغات الثلاثة الأولى التي أصدرتها قوات الاحتلال نصوصا تشير إلى اعتزام إسرائيل تطبيق أحكام معاهدات جنيف على الأراضي التي احتلتها . فقد أشارت المادة 35 من البلاغ العسكري رقم 3 المتعلق بإنشاء المحاكم العسكرية والقائمين عليها :..تطبيق أحكام وقواعد اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب لسنة 1949 بخصوص كل ما يتعلق بالإجراءات القضائية, وانه في حالة نشوء تناقض بين الأمر العسكري والاتفاقية الرابعة تكون الأفضلية لأحكام الاتفاقية ".
بعد مرور فترة قصيرة على بداية الاحتلال تكشف الأطماع الحقيقية للقادة السياسيين في إسرائيل فيما يتعلق بعزمهم إبقاء سيطرتهم على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 فلجأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى نفي صفة الاحتلال الحربي لتواجدها في الأراضي الفلسطينية وأطلقت على هذه الأراضي اسم الأراضي " المحررة" أو "المدارة" . وتمشيا مع هذا التوجه الجديد قامت في شهر تشرين الثاني 1967 بحذف المادة 35 من البلاغ العسكري رقم 3 المذكور معلنة بذلك التراجع عن الاعتراف بأفضلية أحكام اتفاقية جنيف الرابعة على التشريع العسكري الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
لاقى التوجه السياسي الجديد لسلطات الاحتلال وتراجعها عن موقفها بشان انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 الدعم من قبل فقهاء القانون الدولي الإسرائيليين وعلى رأسهم يهودا بلوم. لقد حاول بلوم توفير الغطاء القانوني لموقف إسرائيل الرسمي , فأورد الحجج التي تحول دون تطبيق الحكومة الإسرائيلية لاتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة . لقد انطلقت الحجة الأساسية في تبرير الموقف الإسرائيلي من أن ضم الأردن للضفة الغربية عام 1950 وحكمها لها حتى عام 1967 قد تم بصورة غير شرعية ولم يلاق اعترافا من قبل المجتمع الدولي. ونظرا لان الأردن لم تكن تملك الحق في السيادة على الضفة الغربية ونتيجة لحلول إسرائيل محل حاكم غير شرعي فان اعتبار إسرائيل قوة احتلال يصبح موضعا للشك. بالتالي فهي غير ملزمة بتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة بشان حماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب لعام 1949 على الأراضي الفلسطينية. فالاتفاقية واجبة للتطبيق فقط في حالة حلول المحتل محل الحاكم الشرعي.
لكن بلوم يتجاهل بان الهدف من الاتفاقية هو حماية المدنيين وقت الحرب والاحتلال على حد سواء ويتعين تطبيقها سواء كان الحاكم شرعيا أو غير ذلك. إن رفض المحتل الإسرائيلي الاعتراف بشرعية الحكومة الأردنية المطرودة لا يبرر تطبيق الاتفاقية. بالإضافة لذلك تنص المادة الثانية من الاتفاقية على وجوب تطبيقها في حالة الحرب المعلنة أو أي نزاع مسلح ينشب بين طرفين أو أكثر من الأطراف السامية المتعاقدة. فالمعيار الأساسي إذن هو الوقوع الفعلي للأعمال العدائية وما قد يتمخض عنها من احتلال حربي. إن رفض أطراف النزاع الإعلان عن وجود حالة الحرب أو الإقرار بوجودها ليس من شانه تبرير تعليق تطبيق الاتفاقية. لهذا كله رفضت الحجة الإسرائيلية التي ساقها بلوم من قبل غالبية فقهاء القانون الدوليين وكذلك من قبل اللجنة الدولية للصليب الأحمر من جانب آخر التزمت إسرائيل بتطبيق معاهدة لاهاي الرابعة المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب لعام 1907 والأحكام الملحقة بها بصفتها جزء من القانون الدولي العرفي الذي يعتبر بدوره جزء من القانون المحلي الإسرائيلي . علما بان هذه الاتفاقية تخلو من آية إشارة صريحة للسكان المدنيين ووجوب حمايتهم.
ب- الموقف الدولي من انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي المحتلة.
لقد واجه الموقف الرسمي الإسرائيلي القائل بعدم سريان اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة انتقادات واسعة من قبل الدول الأطراف في الاتفاقية المذكورة . فقد أكدت هذه الدول في قرارات متتابعة على وجوب تطبيق القانون الدولي الإنساني . بما في ذلك أحكام اتفاقية جنيف الرابعة , على الأراضي الفلسطينية المحتلة , وانتقدت الإجراءات المتخذة من قبل سلطات الاحتلال تجاه هذه الأراضي وسكانها . كما أدانت هذه الدول التغييرات التي أحدثتها إسرائيل واعتبرتها باطلة وغير شرعية , وطالبت بإلغائها وأعادت الدول المتعاقدة التأكد في 5 كانون الأول/ ديسمبر على ضرورة سريان اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة بما في ذلك القدس الشرقية.
بقلم الدكتور حنا عيسى - أستاذ القانون الدولي