على وقع " الملهاة " التي نعيش , وجدتني أحن للكتابة بعد عزوف قصير استمر لعدة أسابيع , بسبب حالة " القرف " التي انتابتنا في ظل أوضاع بائسة ويائسة يعيشها شعبنا الفلسطيني , وخاصة في قطاع غزة حيث انقطاع الكهرباء لأكثر من عشر ساعات في اليوم الواحد , ومعبر مغلق معظم الأيام , وفي الضفة الغربية القتل اليومي وعربدة الاحتلال والاستيطان , بالإضافة إلى مأساة أهلنا في مخيمات اللجوء في سوريا " الممانعة " والمقاومة , وهو ما دفع بأهلنا هناك إلى النزوح واللجوء في نكبة جديدة أودت بهم إلى أمواج البحر تبتلعهم على شواطئ العالم من ايطاليا إلى استراليا.
حين كانت الغربة تقتلنا , مثلما كان الاحتلال يقتل أهلنا في الأراضي المحتلة , حلمنا بوطن نعود إليه نرتاح فيه من شقاء الغربة ووعثاء السفر , وذل الاحتلال والاستعمار والاستيطان , لكن الحلم غير الحقيقة , فبعد عشرين عاما من اتفاق السلام في أوسلو , لم نجد الوطن وتبخر الحلم , بعد عشرين عاما لا زلنا نفاوض من أجل وطن تقسم إلى قسمين بفعل الصراع على سلطة هنا وهناك , في غزة والضفة الغربية , ونسي الجميع أننا ما زلنا تحت " بسطار" الاحتلال , وتحت وقع القتل اليومي والحصار وتوسع الاستيطان , وتهويد المقدسات وضياع القدس , التي نسيها المتصارعون على سلطة زائلة , لا تقوى على توفير الكهرباء والغاز والماء والدواء في " إمارة " الجنوب , بينما لا تستطيع دولة الشمال إزالة حاجز اسرائيلي يقتل كل يوم شابا من الشباب الذين فاض بهم الكيل , وتملكهم الغضب مما يلقون من إهانة وذل على أيدي جنود الاحتلال . وجدتني وسط هذه الأجواء والأنواء , وفي ظل تواصل الانشقاق والانقسام والخصام , والحديث عن الانتصار والانهزام , أستلهم بيتا من الشعر لشاعرنا الكبير الراحل محمود درويش في قوله " وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر " , لأعارضه بقولي " وطني ليس حقيقة وأنا لست منافق " , وإن كان محمود درويش تمنى ألا يكون الوطن حقيبة , وألا يظل الفلسطيني المسافر يحلم بالعودة للوطن , الذي قال عنه يوما , " هذا الشيء الممتد من الماء إلى الماء , لا هو وطن ولا هو خريطة " , هكذا شخص درويش حالنا من سنين طويلة قبل عودتنا إلى ما هو " متاح من الوطن " , حسب تعبير شاعرنا الكبير أحمد دحبور – متعه الله بالصحة والعافية – فيما هو متاح من الوطن المستباح مساء صباح , من جنود الاحتلال ورعاع المستوطنين الأوباش.
عشرون عاما من المفاوضات , وسبعة أعوام من الانقسام , بدأنا بغزة وأريحا أولا , وانتهينا بغزة ورام الله ثانيا , هذا حالنا اليوم , كيانان منفصلان , أو دولتان دون عنوان , وما بينهما جغرافيا ملبدة بالمناطق الداكنة والاحتلال الأسود , مقسمة ما بين مناطق ( أ. ب . ج ) , محصنة بالأسوار والحيطان ومعزولة بالاستيطان والجدران , واحتلال وحصار بين قتل ودمار , ونحن في صراع على كرسي مكسور أو مثقوب , نبحث عن شرعية مفقودة , الباحث عنها مجنون أو معطوب.
منذ اتفاق مكة عام 2007 , عام الانقسام والانهزام , إلى القاهرة والدوحة بعد ذلك بأعوام , لا زلنا نبحث عن المصالحة والوحدة وإنهاء الانقسام , لكنه الحلم والقوم نيام , ففي غزة والضفة العربية توأمان لدودان , لا يحترمان أواصر الأخوة , ولا حتى وحدة الدم بعد أن سال قبل سبعة أعوام , بعدها أصبح الدم يفرق الاخوان , كل منهما يدور في فلك نفسه , ولا يرى حدبة ظهره , قدران متباينان , كلما فكر أحدهما بالتقرب من الآخر , اشتعلت البغضاء بينهما , وارتفعت حدة التصريحات والهيجان , وباتت المصالحة في " خبر كان " , لكن القاسم المشترك بينهما , تعاهدهما على " الطلاق البائن " , ليحفظ كل منهما ما بين يديه من مكاسب ومناصب , وهنا يحضرني قول الفنان التونسي لطفي بوشناق في أغنيته المؤثرة " الوطن " , ( خذو المناصب والمكاسب لكن خلولي الوطن ) .
وفي ظل " الخريف العربي " الذي ضرب أوطاننا , وانشغال العالم بما يجري هناك , حيث بات المجتمع الدولي ينظر إلينا دون مبالاة , والعدو يسرح ويمرح في أرض كنعان , ويحلم بــ " يهوذا والسامرة واورشليم " , ويضمها إلى دولة اسرائيل التي قامت على أرض فلسطين عام 1948 . بينما نحن نواصل الخصام والمفاوضات والحديث عن المقاومة دون مقاومة , بعد أن أرسى مرسي " المعزول " هدنة لا تزول , كلام هناك عن السلام والوئام , وكلام هنا عن المقاومة وقرقعة السلاح , وفي كلا الحالتين فإننا " نسمع جعجعة ولا نرى طحينا " , بينما العدو في وطن الشمال ينشر الحواجز وينصب الكمائن , ويصنع " الخوازيق " , ويمنع الناس من التنقل في الطريق , يقتل ويجرح ويعتقل العشرات والمئات , ونحن نقول " الحياة مفاوضات " . وفي وطن الجنوب الحديث عن المقاومة دون مقاومة , بل هدنة مفروضة ومقاومة ممنوعة , وبين هذا وذاك الوطن نزاع على كل شيء إلا الوطن , أيهما الأقدر على المصادرة والتملك , ايهما أكثر موهبة ومقدرة على قمع الانسان من جديد , في زمن الحكم بالقوة والحديد.
وهكذا يتكرس للفلسطينيين دولتان , دولة في الشمال ودولة في الجنوب , عاصمة الأولى رام الله وعاصمة الثانية غزة , وللدولتين حكومتان , وللوزراء رئيسان , أحدهما لتسيير الأعمال , والآخر يسمى المقال , وتنازلت الدولتان عن القدس عاصمة فلسطين , واسرائيل تهود الأقصى وتمنع الآذان , ولم يبق من قدسنا سوى رفع الشعارات , وتدبيج البيانات والمزيد من الإدانات.