ان مهمة مكافحة التخابر في غزة لا تقل اهمية عن مقارعة الاحتلال بجميع السبل، و تعتبران وجهان لعملة واحدة، ولا غنىً لواحدة عن الاخرى، وتسيران وفق خطان متوازيان، وتزداد نسبة نجاح احداهما طرديا اذا ما تحقق نجاحا للاخرى. وتأتي اهمية فكرة مكافحة التخابر في حماية ظهر المقاومة ،وتحصين الجبهة الداخلية لمواجهة العدو الاسرائيلي. وقد تأذى الاحتلال بما قامت به المقاومة الفلسطينية في السنوات الماضية وخاصة بعد حرب الفرقان 2008-2009، حيث حرمته بعد ذلك من بنك المعلومات، ومن عناصر اخرى كثيرة كانت متاحة من خلال القضاء على فئة العملاء المتعاونين التي كانت تسهل عملية الاغتيالات وضرب الاهداف الهامة، حتى بات الاحتلال في دلالة رمزية على فشله يضرب الاهداف القديمة التي تم ضربها من قبل، او يضرب اماكن نائية لمجرد اشاعة اجواء الرعب فقط ظانا ان التركيبة النفسية للفلسطيني تشبه الاسرائيلي! وكان عدوان 2012 عبارة عن نصر محقق للمقاومة في غزة على الاحتلال الذي لم تكن تصله اخبار البرنامج التسليحي التي تمتلكه المقاومة، والتي عملت على تطويره بهدوء. وتجدر هنا ابراز بعض الملاحظات الهامة المتسلسلة والمترابطة بخصوص هذا الملف:
(1) ما يلاحظ ان المقاومة الفلسطينية قامت بدور غير مسبوق في مكافحة العملاء والمتخابرين ضد ابناء وطنهم، واستطاعت المقاومة بنجاح واقتدار ان تدير هذا الملف بالتعاون مع الاجهزة الامنية التابعة لوزارة الداخلية في الحكومة في غزة، وكانت حكومة غزة قد ورثت ميراث صعب وثقيل ، حيث تعاملت مع ما تراكم من ظواهر سلبية عبر سنوات السلطة الفلسطينية التي ظهر منها الترهل في الاداء الامني، والتنافس بين اجهزتها والثغرات القاتلة التي اغفل عنها رجال السلطة التي اتاحت للعملاء ان يتكاثروا بحرية ، وخاصة في ظل التنسيق الامني الذي كان امرا عاديا والاحتكاك المباشر والتواصل بين رجال السلطة وبين الاحتلال الاسرائيلي وقياداته الامنية والعسكرية.
(2) نلاحظ ايضا ان المجتمع الفلسطيني الدائم النقد لجميع الحكومات بما فيها حكومة غزة، لم يتعرض لملف مكافحة العملاء باي نقد في سابقة جميلة تعتبر " تفويض ضمني" للحكومة والمقاومة لكي تكمل مهمتها. حيث الشعب الفلسطيني يتميز بالروح الجهادية ويميل للمقاومة وتشجيعها بحكم تجربته مع احتلال اسرائيلي غاشم، دائم العدوان، اضافة الى تجربة الانتفاضات الشعبية حيث لا تجد عائلة فلسطينية الا و بها اسير او شهيد او جريح او مقاوم ، او متضرر من الاحتلال، و كل ذلك جعل الفلسطيني وطني غيور يحب من يقاتل الاحتلال ويتخلص من العملاء.
(3) نلاحظ ايضا ان تضافر الجهود بين الاجهزة الامنية في قطاع غزة ورجال المقاومة المتيقظة قد حققت اهداف يمكن لمسها من تعاملها بشكل حاسم وحكيم في نفس الوقت مع ملف العملاء، حيث الاحتلال الاسرائيلي لا يعلم ماذا يجري في قطاع غزة ولا يوجد لديه بنك اهداف حقيقي، وحتى النفق الذي تم اكتشافه في خان يونس للمقاومة، جاء اكتشافه من خلال مزارع اسرائيلي اكتشفه صدفة بفعل تسرب المياه بشكل ملفت في المكان، وليس على خلفية استخباراتية، وتصريحات الاحتلال الاخيرة بانه سيضرب غزة اذا قامت المقاومة بالبدء، يعني انه من الصعب تكرار سناريوهات 2008-2009 و عدوان 2012، مما يعني اننا نغزوهم ولا يغزونا، وهذا انجاز سيدرك العالم العربي والاسلامي اهميته الان او لاحقا.
(4) اعدام بعض العملاء الذين اعترفوا بجرائمهم وكانوا سببا في مقتل رجال المقاومة لا يتنافى مع ما اقرته الشريعة الاسلامية، ويتماشى تماما مع القوانين الداخلية لدول غربية كثيرة متقدمة, فحكم الاعدام ما زال ينفذ في اوروبا منها بيلاروسيا وولايات امريكية كثيرة ودول اسيوية وافريقية كثيرة، وذلك بسبب مطالبة الرأي العام لتلك المجتمعات بذلك، حيث حسب الرأي العام في الدول التي تطبق الاعدام يعتبر حكم الاعدام اداة رادعة ضد المجرمين ويقلل من نسبة الجريمة،،غير ان هذا الحكم يجب ان ينفذ بشكل قانوني اكثر، وان لا يتكرر فعل التمثيل بالجثث كما حصل في غزة في حرب 2012.
(5) جدير بالملاحظة ايضا، مدى الرقي الانساني والاخلاقي الملموس و الذي ابدته الاجهزة الامنية ورجال المقاومة في التعامل مع المتخابرين، حيث تم اعطاء فرص و وقت للتوبة ، وتمديد الوقت عندما سلم الكثير انفسهم طوعا، وتم التستر عليهم مع مراقبتهم الدائمة، حفاظا على اسرهم وابنائهم وذويهم وسمعتهم، فقد خدم الطابع الاصلاحي الذي يفرضه الدين على رجال المقاومة ان يتعاملوا بهذا الشكل، مما اعطى اطيب النتائج، فالهدف اصلاحي تربوي وليس انتقامي فقط،، وهذا ما اكدته تصريحات المسئولين حيث اصبحت شبكات التجسس كلها تحت السيطرة، وقد تم تطوير الاداء في التعامل مع العملاء واستخدامهم ايضا.
وفي توصية متواضعة ارجو من المقاومة والاجهزة الامنية الاستمرار على نفس ذات النهج، وان تنتبه الى بعض المؤسسات الدولية غير الحكومية التي تعلن ان سبب وجودها اغاثي فقط، ولكنها عندما تحظى بحرية في عملها، تسعى بشكل واضح لممارسة الضغط على الحكومة، اضافة لما قد ترمي اليه من تحقيق اهداف تجسسية او استكشافية ومراقبة سلوك وخطط واهداف الحكومة او المقاومة ان استطاعت لذلك سبيلا. وهي الان كثيرة في ظل زيادة مساحات الحرية وزياة المؤسسات وعملها المتشابك والمعقد، ووفرة المال المسيس الذي يهدف الى استغلال حاجة المجتمع الذي يعيش تحت حصار. ولوحظ ايضا انحراف شديد في بعض منظمات المجتمع المدني حيث بات تأطير المواطنين ليس في مجال الديمقراطية الحقيقية وحقوق الانسان والحريات ،ولكن في كيفية البحث عن ممولين وطرق وضع المشاريع التي تجلب المال من الغرب.
[email protected]
*دكتوراه علاقات دولية