تجديد الفـقـه الإسلامي وفق متغيرات العصر من وجهة نظر علم الاجتماع الديني

المجتمعات العربية والإسلامية ليست سواء، فهي إن كانت تتفق في العموميات كوحدة المعتقد، واللغة، والثقافة، والتاريخ، والجغرافيا، والإرث الحضاري. إلا أنها تختلف في الطباع، والعادات والتقاليد، والتشكيلات الاجتماعية، ومستويات التحضر، والتطور التكنولوجي، والوعي الاجتماعي، والثروة والإنتاج والدخل ومستوى المعيشة. كذلك تختلف في أنظمة الحكم السياسي التي تتنوع بين الملكي، والجمهوري، والبرلماني، والرئاسي، والإسلامي، والعلماني. وتختلف في درجة الاستقرار أو الاضطراب والصراع الاجتماعي والسياسي، كذلك تختلف في المذاهب الفقهية الموزعة بين المذاهب السنية الأربعة (الحنفي، المالكي، الشافعي، الحنبلي )، أو التنوع حسب الطائفية كسنة وشيعة. كما تتفاوت في نسب التعليم، والصحة... إلخ.
هذه الاختلافات بين المجتمعات العربية والإسلامية ترتب عليها مشكلات عديدة، والمشكلة تكبر عندما نحاول أن نجد تأصيلا شرعيا لها. والذين يتصدرون البحث عن التأصيل الشرعي لهذه القضايا (الفقهاء)، فهم يعتبرون المرجعية التي يُرجع إليها لاستقاء أحكام الدين والاسترشاد بها في النوازل والحوادث التي تلحق بالمجتمعات. لكن السؤال الذي يطرح نفسه ما هي قدرة الفقيه على الاجتهاد والحكم في القضايا الاجتماعية التي هي من خارج بيئته الاجتماعية؟. فالفقيه قد لا يستطيع تشخيص الموضوعات التي تتطلب الرأي الشرعي، نظرا للاختلافات المشار لها سابقا. لذلك فإن من يريد أن يتصدر الفتوى لا بد أن تتوفر فيه شروطاً ومواصفات معينة، منها:
 الخشية من الله عز وجل، وألا يخشى في الله لومة لائم. قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (فاطر، 28).
 أن يكون متخصصا في العلم الشرعي أولا، وملما بالعلوم الإنسانية والطبيعية ثانيا. حتى يكون باستطاعته البحث عن التأصيل الشرعي لقضايا ومشكلات المجتمعات المعاصرة. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} (الإسراء، 107).
 أن يكون يقرن القول بالعمل. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف، 2-3).
 الأمانة. قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب، 72).
 أن يتحلى بالموضوعية، والابتعاد عن الهوى والمزاجية. قال تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (ص،26).
 أن يكون قادرا على مقاومة الإغراءات المادية التي قد تجعله يحيد عن الطريق الصواب، وتؤثر على رأيه الشرعي. وهذا داء أصيب فيه الكثير من الفقهاء والمفتين المعاصرين ممن ينعتون بعلماء السلاطين الذي يقدمون فتاوى دينية في قوالب جاهزة لتتماشي مع أهواء أهل الحكم.
 ألا يكون متشددا إلى الحد الذي يجعل اليأس يدب في نفوس الناس، ويقنطهم من رحمة الله، وألا يكون مفرطا إلى حد غرس الإتكالية والتهاون في نفوس الناس.
 ألا يرخص ويتهاون في بعض المحذورات والمنهيات حتى يدعي لنفسه الوسطية والاعتدال على حساب الدين.
 ألا يتم اختيار الفقيه بناء على اعتبارات مادية: كالنسب، أو القومية، أو الجنسية، ليس لها اعتبار في اختيار المرجعية الدينية.
أخيرا يمكن القول: إن حاجة المجتمعات العربية الإسلامية لفقهاء مجتهدين ومجددين ليس من أجل أن يبحثوا في موضوعات فقهية أُشبعت دراسة وبحثاً، إنما من أجل أن يدرك الفقهاء حقيقة الواقع السياسي، والاقتصادي، والثقافي، والاجتماعي، والعلمي التي تمر فيه مجتمعاتهم، وبناء عليه يتم الاجتهاد وإطلاق الحكم الشرعي. فما يصلح للمجتمع الفلسطيني من اجتهادات وأحكام فقهية قد لا يصلح للمجتمع السعودي، أو المصري، أو الصومالي، أو السوداني. فلكل مجتمع أوضاعه ومشكلاته الخاصة وبالتالي فإن هذه الاجتهادات تكون انطلاقا من الواقع الاجتماعي لتلك المجتمعات. وتعتبر ظاهرة العزوف عن التجديد الفقهي تعبيرا عن عدم شعور بالمسؤولية الاجتماعية.

أ/ بسـام أبو عليان
15/11/2013م