يبدو أن فرنسا التي تعتبر أم المشروع النووي الإسرائيلي تنتحب، فقد أسرع رئيسها فرانسوا هولاند إلى تل أبيب والخوف يسبقه، والقلق يدفعه، وهواجس القنبلة النووية الإيرانية ترعبه، يصحبه لفيفٌ كبير من الوزراء والنواب وكبار رجال الأعمال والصحافيين والإعلاميين الفرنسيين، محاولاً طمأنة الحكومة الإسرائيلية، بأنها لن تسمح لإيران باستكمال مشروعها النووي، ولن تمنحها الفرصة لامتلاك القنبلة النووية، وأنها لن تقبل بتهديد مستقبل مشروعها الأول، الذي رعته بنفسها قبل أن تتولى الإدارة الأمريكية رعايته والاهتمام به، فهي التي تولت كبر العناد والمكابرة في مفاوضات الدول الخمس الكبرى وألمانيا مع إيران في جنيف، وهي التي ارتفع صوتها دون غيرها بالرفض والاعتراض، خوفاً على مستقبل وأمن دولة الكيان.
من المعروف أن الحكومة الفرنسية هي التي تبرعت بإنشاء مفاعل ديمونة النووي الإسرائيلي الأشهر منتصف خمسينيات القرن الماضي، وتحديداً إثر العدوان الثلاثي على مصر، حيث أرادت الحكومة الفرنسية مكافأة إسرائيل على مشاركتها في العدوان، ودخولها المعركة معها إلى جانب بريطانيا، فكانت المكافأة الفرنسية أكبر مما كانت تتوقع الحكومة الإسرائيلية، التي طلبت من حكومة فرنسا أن تمكنها من حماية نفسها وحدودها من عدوان الدول العربية.
ومن المفارقات العجيبة أن الذي استقبل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، هو الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريس، الذي يُعتبر أبو القنبلة النووية الإسرائيلية، وصانعها الحقيقي، فهو الذي تولى بحكم منصبه مديراً عاماً لوزارة الدفاع الإسرائيلية في العام 1956، إدارة المفاوضات السرية مع الحكومة الفرنسية، التي وافقت على طلب الحكومة الإسرائيلية، وزودتها بكل ما يلزم لبناء وتشغيل أول مفاعل نووي إسرائيلي، كما أنه أشرف بنفسه على تطوير قدرات بلاده النووية، بالتعاون مع كبار علماء الذرة الفرنسيين، وما زال إلى اليوم، وهو يترأس فخرياً دولة الكيان، يحرص على مشروعها، ويذلل الصعاب أمامه، ويرفض أي محاولةٍ لتحجيمه أو التأثير عليه.
فرنسا التي هرعت مجزوعةً إلى تل أبيب تطمئنها وتربت على ظهرها بأنها لن تتخلى عنها، ولن تتركها وحدها، ولن تسمحَ لدولةٍ بالاعتداء عليها، هي نفسها التي مكنت إسرائيل من إجراء أولى تجاربها النووية في صحراء الجزائر، فوق الأرض العربية الحرة الثائرة، وهي التي زودتها من قبل بمختلف أنواع الصواريخ والطائرات الحربية المقاتلة، التي شكلت نواة الجيش الإسرائيلي، وكانت عدته في الاعتداء على مصر وقطاع غزة، وكان لها أكبر الدور في اعتدائها الكبير على مصر وسوريا والأردن في حرب العام 1967.
جاء فرانسوا هولاند مهرولاً على عجل ليقول للحكومة الإسرائيلية نحن معكم، ولن نتخلى عنكم، وسنبقى إلى جانبكم، ندافع عنكم، ونمدكم بكل أسباب القوة، وعوامل الصمود، ولن نسمح لأحدٍ أن يعتدي عليكم، أو يهدد أمنكم وسلامة بلادكم ومواطنيكم.
لم يخجل هولاند من مواقفه، ولم يراع شعور الدول العربية التي تدعي أنها ترتبط بعلاقاتٍ طيبة مع الحكومة الفرنسية، بل جاهر من باريس بمواقفه، التي سبقته إلى كل الدنيا قبل أن تهبط طائرته في تل أبيب، وكررها بوضوحٍ وسفور في حضرة صانع القنبلة النووية الإسرائيلية شيمعون بيريس.
لا ينتاب الرئيس العجوز القلق، ولا يخالجه الشك، بأن دول أوروبا قد تتخلى عن أمن الدولة العبرية، فهو واثق من أن لندن وباريس وبرلين وغيرهم، سيكونون في الخندق الأول المدافع عن كيانهم، وأنهم لن يسمحوا بأي تفاهمٍ من شأنه أن يتيح الفرصة لاستكمال المشروع النووي الإيراني، وتمكينه من امتلاك تقنية صناعة القنبلة النووية، معتبراً أنه لا خوف على بلاده في ظل تصريحات قادة الغرب، بأن امتلاك إيران للقوة النووية لا يشكل خطراً على إسرائيل فحسب، بل إنه يشكل خطراً على أوروبا نفسها، وعلى الشرق الأوسط والعالم كله.
يبدو أن فرانسوا هولاند وبلاده قد عميت أبصارهم عن الجرائم الإسرائيلية، ولم يعودوا يروا الانتهاكات اليومية التي يتعرض لها الفلسطينيون، قتلاً واعتقالاً ومصادرةً للأراضي والحقوق، وبناءً للمزيد من المستوطنات، وتوسعة القديم منها على حساب الحقوق الفلسطينية.
أو أنهم لا يرون الحصار الإسرائيلي المطبق على الفلسطينيين، في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، والمحاولات اليهودية المحمومة لتهويد القدس، واحتلال مسجدها الأقصى، وتحويله إلى كنيسٍ يهودي، ومزارٍ ديني لهم.
فرنسا اليوم تتصالح مع نفسها، وتنسجم مع تاريخها، وتعود إلى ماضيها، فتقف مع الإرهاب، وتساند الباطل، وتؤيد الظلم، وترعى الاعتداء، وتصادر الحريات، وتعتدي على الكرامات، وتجيز مصادرة الحقوق، وإهدار كرامة الإنسان.
كذبٌ هي المبادئ الفرنسية، وسرابٌ هي أفكار الثورة فيها، وزيفٌ هي شعاراتها ومبادؤها، فهي لا تقيم وزناً للعدالة، ولا تحرص على المساواة، ولا تقدم معايير الحق والعدل، ولا يهمها حقوق الإنسان، ولا تراعي القيم الإنسانية للشعب الفلسطيني، طالما أن الذي يخترقها هو إسرائيل، وأن الذي يعتدي عليها هو ربيبتها الأولى، التي كانت يوماً في حجرها صغيرة، وتربت في كنفها حتى أصبحت قوية، وقادرة على الجرح والإصابة.