وترجّل النّجم!

لهذا الصباح طعم مؤلم، بعد أن استيقظت على وفاة ” العمّ” الشاعر المصري الكبير الفاجومي أحمد فؤاد نجم.

قبل سبع سنوات التقيت بالشاعر نجم في القاهرة، وتحديدا في دار” الميريت للنشر”وهي بناية قديمة وصغيرة، تنتشر فيها رائحة الرطوبة فسألته لماذا  يقضي غالبية وقته في هذا المكان القديم،  فقال لي إنّه  متعوّد على حياة البؤس، وأنّ الإنسان يجب أن يعيش بشخصيته المتواضعة وأنه يكره مظاهر الترف والبذخ . وهذا المكان يعطيه الراحة النفسية فهو يجلس بين أصدقائه وبين الكتب القيمة.  وقال :”الفقر دة هو من اختياري، كل عائلتي فقراء، فلماذا إذا  يجب أن أكون مختلفا عنهم؟، وأنا أعيش مع الناس، آكل ما يأكلون ويحيط بي نفس التلوث والنفايات”.

لذلك، لعاش نجم فلاحا بسيطا قضى حقبة طويلة من الزمن على السطوح جراء فقره،  فألهمته المواويل التقليدية المصرية حسًّا جماليا مرهفا، وشحنة قوية وقوّة في الإبداع والابتكار، فأصبح يناضل  لجانب الطبقة الكادحة والعاملة. فأصبح ناطقها الرسمي عبر قصائده الرائعة التي تعرضت للمحاصرة والاختطاف ومحاولات الاحتواء دون جدوى.

تحوّل نجم إلى المحكمة العسكرية وسُجن، وكان أول سجين سياسي يحاكَم أمام محكمة عسكرية،  فأمضى في سجون مصر ثمانية عشر عاما، تسعة منها في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وتسعة منها في عهد السادات، لكنّه أحبّ عبد الناصر، وكره السادات معتبرا أنّ أسعد لحظة في حياته هي يوم رحيل السادات، فهو شعر بالفرحة وبأخذ ثأره وثأر مصر والعرب لأنّه” أعطى فرصة للمتخاذلين العرب أن يقول لهم إنّه عمل سلام مع إسرائيل، وهذا مسمار في نعش المقاومة”.

عندما سألته إذا ما كان لا يخاف أن يُسجن مرّة أخرى بسبب قصائد الهجاء فقال لي :” أنا  أهجو وأذم واشتم دون خوف ودون ملل، أنا عمري ما كان عندي رقابة لا في الكلام، ولا في الأكل ، أو الشرب، أو الإبداع، ولا في النوم، أنا كدة، أعمل وأتكلم اللي أنا عايزه واللي مش عاجبه يروح يقول لأمي ولأبوي، عشان كده دفعت ثمن الكلام دة  18 سنة سجن، والآن أتكلم وأذم واشتم الزعماء والسياسيين والسياسة  براحتي التامة، ولا أخاف من أحد، أصل الناس ما تعجبهاش حاجة، فأهتم لكلام الناس ليه؟ و.برنارد شو يقول “الرقابة على درجات القتل “، لذلك أنا حر في كل تصرفاتي”.

نجم كان يكره أن يحمل الهاتف الخليوي ، فمن يريد التواصل والتحدث معه ما عليه إلّا معرفة مكان تواجده. فكنت أذهب يوميا وعلى مدار أسبوعين لزيارته، في ساعات العصر، فأجده جالسا على كرسي خشبي قديم برفقة العديد من أصدقائه، بينهم مدير “دار الميريت” الأستاذ محمد الهاشم.

كان يضع أمامه الصحف المصرية ” الأهرام ” و” الوفد” ويطالع معظم أخبارها، وهو يدخّن السيجارة تلو الأخرى. فيهرع إلى الثلاجة الصغيرة ليقدّم لي مشروب البيبسي، والتي ملأها بهذا المشروب، والذي كان  يقدّمه لضيوفه ومعجبيه الذين كانوا يحضرون يوميا  لزيارته. يسلّمون عليه، ويلتقطون الصور التذكارية معه، ويهديهم العديد من إصداراته الشعريّة،  فيما كانت صور الشعراء المصريين مثل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم معلقة على ما ظهر من الحيطان، التي امتلأت رفوفها بمئات الكتب.

 تمتّع نجم بخفة ظل، وروح مرحة،  وبشاشة وجه، فكنت أجلس وأتحاور معه في مواضيع مختلفة لعدّة ساعات دون ملل، وغالبا ما كان يستمع للسيدة فيروز وخاصّة أغنية ” سنعود يوما” فهو يؤكد حق الشعب الفلسطيني العودة وأنّ هذا الحلم سوف يتحقّق. وكان يتمنى زيارة مدينة الناصرة وتحديدا كنيسة البشارة. كما وأنّه أحبّ الشعب السوري، لأنّهم       ”  شايلين صليب العروبة على صدورهم لوحدهم”.

عن الزعماء العرب قال لي إنّهم شوية ” عصابة” وكعبتهم هي ” البيت الأبيض”. وعندما سألته عن رأيه بإعدام الرئيس العراقي صدام حسين عبّر عن استيائه واعتبر ذلك بصقة في وجه العرب وتحديدا المسلمين، وأكّد أنّ صدام مات محترما رافعا رأسه، ومتّفقا مع كيانه وذاته.

وكنت  قد سألت نجم لماذا لا يثور الشعب المصري في عهد مبارك، فقال:”الجماهير ستنفجر، ووقت الانفجار والانتصار ما ينحسبلوش وقت ولمّا كنت في مخيم “الحلوة” في لبنان وقت الانتفاضة الأولى التقيت في شباب فلسطينيين يرقصوا على موسيقى مايكل جاكسون وشعرهم طويل ويرتدون بناطيل جينز، فقلت في نفسي دة منظر شعب سينتصر، وفي الصبح استيقظت فلقيت الانتفاضة اللي كسرت الدنيا”.

رحل نجم، تاركا وراءه إرثا كبيرا من عشرات القصائد، وملايين المحبّين، ويبقى نجم شاعر الغلابة وعروة الصعاليك الذي استلّ قلمه لنصرة المظلومين، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا في بعض الآراء السياسية بما يتعلّق في مصر؛ إلّا أنّه سيبقى نجما ساطعا لن يأفل. رحمك الله يا ” عمّ” أحمد نجم الغالي، وأسكنك فسيح جناته.

*كاتبة وصحافية من فلسطين.