أصبح الكيان الصهيوني مرغماً رغم أنفه على الاعتراف علناً وأمام جمهوره، وبلسان جنوده وكبار ضباط جيشه، أنه لم يعد قادراً على تحقيق النصر على خصومه، وأن تفوقه القديم الذي كان، قد بطل مفعولُه، ولم يعد له ذلك الأثر الكبير الذي كان له في العقود الأخيرة من القرن العشرين، عندما كان جيشه يسير في بلادنا العربية، بكل سهولةٍ ويسر، كما تقطع السكين الزبد الطري، فلا يلقى مقاومة، ولا يواجه بتصدي، ولا تعترض قواته وطائراته مضاداتُ الأنظمة العربية، ولا مقاومةُ الشعوب، ما جعله يحقق أهدافه، ويصل إلى غاياته بكل يسرٍ وسهولة.
لكنه اليوم بات يدرك أن الأمور على الأرض قد تغيرت، وأنها تبدلت لصالح خصومه، الذين تعاظمت مقاومتهم، واشتدت عزيمتهم، فأصبحت أكثر قوةً، وأشد بأساً، وأقوى مراساً، وأكثر تسليحاً، وأدق تنظيماً، وأكثر خبرةً وأعمق دراية، وبات لديها أسلحة فتاكة، وقدرات عسكرية مهولة، وقدرة على التدريب والتأهيل والتأطير عالية، فضلاً عن ارتفاع روحها المعنوية، ونمو مفاهيمها الوطنية والدينية.
وقد أصبحت الشعوب العربية بأغلبيتها مقاومة، ولديها الجاهزية للتضحية والقتال، والانخراط في صفوف المقاومة، والانشغال في مواجهة الاحتلال والتصدي لأطماعه وتعدياته، ولم تعد تخشى العدو، وتخاف من سطوته، وتحسب حساباً لقوته، بل أصبحت معتدةً بنفسها، ومؤمنةً بقدراتها، وواثقة من النصر، وأنها قادرة على انتزاعه من بين أنياب العدو مهما كانت ضارية وفتاكة.
بل إن أبناء الأمة العربية والإسلامية باتوا يتنافسون في قتال العدو والتصدي له، ويتطلعون بشغفٍ لأن يكون لهم دورٌ ومساهمة في المقاومة، التي باتت بالنسبة للكثير منهم حلماً وأملاً، وهدفاً وغاية، تراود الصغار والكبار، والرجال والنساء، والفقراء والأغنياء، والعاملين وأصحاب المناصب والمواقع، فقد أصبحت المقاومة شرفاً، والقتال فخراً، والتضحية في سبيلها أوسمةً ونياشيناً.
وتأكيداً على ذلك يرأى الخبير العسكري الصهيوني أمير أورين، أنّ عصر الضربة الجوية الأولى قد انتهى، حيث لم يعد بإمكان سلاح الطيران الإسرائيلي، تحقيق التوقعات والتفوق المطلق في الساعات الأولى من الحرب، ومنح الجبهة الداخلية العسكرية والمدنية حصانة شبه تامة من الإصابة، وإتاحة الفرصة للقوات البرية لتحقيق إنجازات على الأرض، كما كان عليه الحال في الحروب السابقة مع الفلسطينيين والعرب.
وهذا ما يظهر بوضوحٍ على القوات البرية الإسرائيلية بقطاعاتها المختلفة، المشاة والهندسة وسلاح الدبابات، حيث تراجعت ىنسبة الراغبين في الانظمام إلى هذه الوحدات، وبات الجنود يخشون العمل في صفوفها، بعد أن تأكد لديهم أن رؤوسهم مكشوفة، وتحركاتهم مستهدفة، وأن سلاح الطيران لم يعد يحميهم، ولا قدرة له على تشكيل مظلةٍ لهم، بعد أن أصبحت قوى الخصم قادرة على شل سلاح الطيران، والتوغل عميقاً بكثافة نيرانٍ صاروخية دقيقة الإصابة، وشديدة التأثير.
ومن جانبٍ آخر يشكو الجنود الإسرائيليون من أن أنظمة الحماية الفردية الإلكترونية التي تربطهم بسلاح الطيران، وتوجه نداءات الاستغاثة، وطلبات الاسناد والحماية، بات يعتريها الكثير من الاضطرابات والخلل، إن لجهة قدرة قوى المقاومة على اختراق هذه الأنظمة، أو استطاعتها أخيراً تفكيك شيفرة حواسيب الطائرات العسكرية، والتقاط ذات الإشارة الموجهة منها أو إليها قبل تنفيذ الضربات المقصودة، الأمر الذي يزيد في شك الجنود أنفسهم في اهتراء مظلة الطيران الحربي، الذي كان قادة الكيان الصهيوني يفتخرون به، ويعتقدون أنه الذراع الطويلة والضاربة لهم.
ويضيف "أورين" الذي يعكس التخوفات الداخلية الإسرائيلية، إلى أنّه بعد أن توقفت "إسرائيل" عن خوض الحروب النظامية مع الجيوش العربية، تفرغ سلاح الجو لمواجهة منظمات "حزب الله" وحماس والجهاد الإسلامي، التي لديها عشرات آلاف الصواريخ، مشيراً إلى أنّ الضربة الأولى لسلاح الجو، مهما كانت منسقة ودقيقة، فإنها ستقضي في أقصى الأحوال فقط على مئاتٍ منها، مما سيوفر نسبياً ضربة نوعية لقواعد السلاح، كأهداف البنى التحتية ومراكز الحكم، إلا أن التجارب السابقة بدءاً من حرب صيف عام 2006 على لبنان، والحروب التي تلتها، تثبت أن صواريخ المنظمات لا تنتهي، وأنها قادرة على الانطلاق بكثافة طوال أيام المعركة.
ونقل "أورن" عن رئيس أحد الأسراب الجوية في سلاح الطيران، "تعميكان نوركين" ما يعزز القلق الإسرائيلي من عجز سلاح الطيران، وفقدانه لأهم مميزاته القديمة "حين تتوجه الطائرات لاستهداف أمكنة بعينها، يتم تحديث ثلاثة أهداف لقيادة العمليات والاستخبارات، وجهات التخطيط والتحكم، وهي الهجوم على المطارات، وضرب وسائل إطلاق الصواريخ المتحركة، والاحباطات المركزة، ويمكن أن يُضاف لها قيادة حملة قوة منقولة جواً في العمق، كاستخدام وحدتي "سييرت متكال" و"شلداغ" النخبويتين.
إلا أن الخبراء العسكريين الإسرائيليين وكبار ضباط الجيش السابقين ينتقدون هذه الرؤية، ويرون أنها أصبحت جزءاً من الماضي، وأنه من العبت الاعتماد عليها، ومن السفاهة تكرار ترديدها على مسامع الجنود والشعب، إذ لا مطارات للمنظمات المعادية، ولا قواعد صواريخ ثابتة لهم، ولا منصات معروفة ومحددة الإحداثيات، فضلاً عن أن السنوات القليلة الماضية قد أحدثت تطوراً كبيراً في القدرات العسكرية لهذه التنظيمات، وهي قدرات سرية، وغير معروفة، ولم تستخدم في الحروب السابقة، ولكن يمكن التكهن بها يقيناً، أنها قدرة صاروحية جديدة، ذكية وقوية وقادرة على الإصابة والفتك، فضلاً عن إمكانية الإحاطة التامة بأي قوات مظلات أو جنودٍ منقولين جواً.
إن الحلم الجيش الإسرائيلي بتكرار الضربات الجوية المفاجئة للمطارات العربية، ولقواعد جيوشها ومنصات صواريخها قد ولى، ولم يعد في قدرة أسراب الطائرات الإسرائيلية التحليق المفاجئ، والضرب السريع، والعودة إلى القواعد بسلام، لاحتساء أقداح الخمر، وتبادل التهاني، والرقص مع المجندات والغانيات، فعلى إسرائيل أن تعيد تنظيم عقلها القتالي، وفق ثابتٍ جديد، أن المقاتل العربي لم يعد مكشوف الظهر كما كان، بل بات الجندي الإسرائيلي بلا سقفٍ يحميه، ولا ظهر يسنده، وأمام مستقبلٍ قد لا يدرك خاتمته.