بطبيعتها غزة تخذل كل من قصدها في حياة كريمة ، تبدد الكثير من الأحلام نتيجة أوضاعها السيئة التي نتغنى بها ليلا ونهارا، قدمت إحصائيات مثالية في الفقر والبطالة لسكان القطاع الذين يعيشون الحصار منذ سنوات ، غزة نفسها اليوم تمرر كأس المر والعذاب لمواطن فلسطيني افني حياته طبيبا خارج فلسطين وحين عاد لأهله وأحبته وجد نفسه في الشارع بدون مأوى .
بطبيعته البسيطة وضعف بصره يكاد يقرأ الأوراق التي بحوزته ، وبشعره الذي اجتاحته الخصال البيضاء بعد قضاء أجمل لحظات حياته مغتربا خارج فلسطين ينظر إلى مقتنياته بحسرة على ماضيه ومستقبله المجهول .
هذه هي حياة الطبيب عثمان عبد النبي "70 عاما " الذي ولد ونشأ في قطاع غزة وهاجر منها بعد دخول الاحتلال الاسرائيلى لغزة عام 1967 ، بعد أن قام بكتابة مناشير ضد الاحتلال برفقة الدكتور رشاد مسمار والشيخ هاشم الخزندار وذلك بعد مطاردة الاحتلال لهم .
ومنذ ذلك الحين لم يكن وصل للثانوية العامة وهاجر إلى الأردن ، ومن هناك توجه إلى ليبيا بعد التسهيلات التي كانت تقدمها ليبيا للفلسطينيين بدخولهم بدون تأشيرة ودرس الثانوية العامة وأكمل تعليمه الجامعي في تخصص جراحة العيون .
بألم يستذكر الطبيب عبد النبي بداية مراحل حياته قائلا "حصلت على عقد عمل كطبيب جراح في الإمارات ومكثت هناك عشرة سنوات ، إلى أن جرت أحداث الحرب بين العراق والكويت ونتيجة الموقف الفلسطيني من هذه الحرب اتخذ مجلس التعاون الخليجي قرار بإنهاء عقود المواطنين الفلسطينيين هناك ، وطردت منها مع مجموعة كبيرة وعدت إلى ليبيا لممارسة عملي هناك "
"وتم ترحيلهم للحدود مع مجموعة من الفلسطينيين بعد منع ليبيا ومصر دخولهم، أقاموا هناك 8 أشهر حيث توفى أكثر من عشرة أطفال نتيجة البرد والجوع على الحدود ، إلى أن اصدر معمر القذافى قرارا بعودتهم لليبيا." يقول الطبيب عثمان عبد النبي
ويتابع " حينما عدت لليبيا عملت هناك بعقود محلية وطبيعة هذه العقود راتبها المتدني الذي لا يلبى متطلبات المعيشة الكريمة ولكن اضطررت للقبول ، وكتبت مقال تم نشرته في الصحف الدولية كرسالة للرئيس القذافى للتعامل معنا برأفة وإنسانية لأننا ليس نحن أصحاب القرار الفلسطيني والمواقف في الحرب بين العراق والكويت ".
"لم تعجب هذه المقالة الحكومة الليبية فقامت بمراقبته وتضييق الخناق عليه إلى أن القي القبض عليه وزج في السجون الليبية ،مما اضطر الأمم المتحدة وسفارة البوسنة في ليبيا للتدخل لنقله للبوسنة كلاجئ "، وجاء ذلك بعد علاقة وطيدة بينه وبين سفارة البوسنة في ليبيا نتيجة توليه ملف مواطنة بوسنية انتحرت في ليبيا بعد علمها بقصف بيتها في حرب البوسنة وقام بتشريحها وتقديم تقرير كامل عنها للبوسنة .
وتم نقله بمساعدة الأمم المتحدة والصليب الأحمر إلى البوسنة واجرى هناك مقابلة معهم استغرقت 3 ساعات على مدار يومين في مقر الأمم المتحدة ، وبعد قبوله كلاجئ سياسي تم منحه إقامة وحماية وعلاج وسكن وراتب وعمل في مجال الطب اكثر من عشرون عاما وقام بإنشاء شركة تجارية هناك انفق فيها كل أمواله التي حصل عليها من ليبيا التي انتهت بخسارته وضياع أمواله فيها .
ويتحدث عن بداية مرضه قائلا " أثناء ممارسة عملي في سراييفو أصبت بماء في عيني اليمنى وأجريت عملية جراحية بعدها مباشرة ففقدت عيني اليمنى وفقدت 50% من عيني اليسرى ، وقررت الجلوس في بيتي نتيجة عدم قدرتي على العمل ، ووفرت الحكومة البوسنية لي المسكن والطعام مع راتب شهري قيمته 400 يورو "
بعد رحلة التشتت والغربة والمرض أصبح قلبه يغلى بشوق لعودته لوطنه وأهله في قطاع غزة فقرر العودة لغزة للعيش مع والدته وأخته ختام بقية حياته ، فتقدم بطلب للسفارة المصرية لدخول غزة على الوثيقة المصرية التي يحملها ووافقت السفارة .
وكان في وداعه في البوسنة وفد من الأمم المتحدة وحكومة البوسنة وموفدين من السفارة الفلسطينية هناك وكان ذلك قرارا صعبا بعد التنازل عن حقه كلاجئ سياسي بعودته لوطنه ، وقاموا بتسليمه تذاكر الطيران ليصل غزة بعد استقباله بوفد أخر من السفارة البوسنية بمصر في مطار القاهرة .
ولم يدرى أن حياته ستنقلب لجحيم بعد دخوله غزة ، ولم يتوقع أن يكون الحصار بهذه الحدة التي كان يسمعها على الفضائيات ، ولن يتمكن من رؤية احد من أسرته والعيش بكرامة في غزة " حسب قوله
ويتابع "توجهت لبعض اقاربى الذين اعرفهم منذ القدم فلم أجد احد لأنهم ماتوا منذ سنوات وتوفيت امى قبل عام ونصف بالأردن ،وحين توجهت لمنزلي صدمت بعد أن وجدته مهدم ومقام عليه برجين في منطقة الشيخ رضوان ، وذلك بعد بيع الأرض بالمنزل لأكثر من شخص عن طريق تزوير أوراق "
بحث عن الجميع فلم يجد احد ينجده إلا بعض أقارب والدته ، وبعدما تعرفوا عليه لأول مرة بعض الشباب وافقوا على مبيته داخل غرفة في كراج سيارات ووافق على مضض وكانت الحشرات والفئران تسير من حوله داخل هذه الغرفة .
ويقول الطبيب " كنت اسمع بالحصار المفروض على قطاع غزة ولكن ليس بهذا الشكل فالبوسنة تعتبر من الدول الفقيرة ولكنها تحافظ على كرامة الإنسان فبمجرد أن تقاعدت احترمتني ومنحتني منزل يحتوي على جميع المقومات البشرية ووفرت لي الطعام ومصروف شخصي ".
ويتابع " دخلت قطاع غزة في 7/11/2013 ومنذ ذلك الوقت وأنا أتنقل في البحث عن حياة كريمة ولم أجد أي رد رسمي يحفظ كرامتي وإنسانيتي في أخر أيامي حيث قمت بتوصيل رسائل إلى مجلس الوزراء والمجلس التشريعي والعديد من القادة ولكن دون إجابة ".
ويقول الطبيب عثمان عبد النبي وهو يبكى بحرارة :" اهكذا يكرم العلماء والأطباء ويلقون هذا المصير ، طوال عمري لمدة 70 عاما كنت عطوفا على البشر ، لكن اليوم أصبحت انتظر من يعطف على ولا أجده ، مصيبتي كبيرة في وطني ".
اليوم يعيش الطبيب عند احد المحسنين الذي يمتلك منزل فارغ بعد أن سمع بالمكان الذي كان يعيش به فاستضافه عنده ويقول الطبيب عبد النبي " رغم المعاملة الحسنة التي احصل عليها من فاعل الخير إلا إنني اشعر بأني ثقيل عليه ولا ارغب في أن يستمر هذا الأمر فانا قدمت الكثير في حياتي كوني فلسطيني ولا استحق هذه المعاملة في مثل سني ".
الطبيب عبد النبي لا يطلب الكثير فقط بيت يستطيع العيش فيه وراتب شهري ليحفظ كرامته فقط وهو مستعد أن يقوم بتدريس طلاب القطاع ما تعلمه في الخارج كونه طبيب جراح متمكن في عمله، كما انه صدر له كتابين في الطب يتم تدريسه في الكثير من الجامعات البوسنية ويكتب حاليا بكتاب ثالث .
وإذا تقطعت به السبل ولم تستطع الحكومة في غزة توفير له ذلك، ناشدها أن تساعده على الخروج من غزة والعودة إلى البوسنة من اجل أن يكمل حياته الباقية وهو محتفظ بكرامته ومكانته التي وصل لها ، رغم رغبته بقضاء بقية حياته بين أهله بغزة .
تقرير :أسامة الكحلوت