في مقالتي الأخيرة الشخصية الفلسطينية والمواطنة ، حاولت ذكر بعضا من جوانب هذه الشخصية ومما ذكرت أن المعاناة التي واجهها ويواجهها الفلسطينيون أينما ولوا وجوههم، وأينما حطت رحالهم ، هي احد أهم القواسم المشتركة التي تجمع الفلسطينيين، ويمكن تصنيف هذا القاسم يوما كعامل تاريخي مهم ، اليوم أحاول الإشارة إلى جانب آخر من جوانب الشخصية الفلسطينية ألا وهي الصمود والصبر المكتسب والنابع من رحم المعاناة ، ما دفعني لهذا هو ما نقرأه ونسمعه هذه الأيام من تصريحات وتقارير إخبارية ، أولها يقرب هجوم إسرائيلي شامل على قطاع غزة الذي يشكل الشطر الأول من الوطن وليس الثاني، مع حبي وتقديري للضفة الغربية لأنها تضم القدس والمسجد الأقصى، ولكن أتحدث من زاوية سياسية وليست عاطفية خاصة بعد ما سمعناه من نوايا استثناء قطاع غزة من الحلول المقبلة للقضية إذا كان هناك حلول ، وهذا على الأقل ما أعلنته الإدارة الأمريكية مؤخرا على لسان كل من الرئيس اوباما وجون كيري .
وثاني هذه الامورهو التصريحات باحتمال انهيار السلطة الوطنية الفلسطبنبة وما سينتج عنه من ضياع واحتلال، وما ينجم عن هذا الاحتلال والضياع لشعب عاش على أمل الاستقلال والحرية، وثالثها خبرا مر سريعا هو ظهور لعناصر احد المنظمات الإسلامية المتطرفة في قطاع غزة ، وما تمثله هذه المنظمات من صفات ما زلنا نستمع ونقرا عنها وعن ممارساتها في سوريا .
أمور ثلاثة في نظري هدفها إرهاب الشغب الفلسطيني ، وانذارة بالويل والثبور ، في حال استمرار الوضع هكذا ، فالمفاوضات الجارية هي المنقذ الوحيد لهذا الشعب ، والمطلوب قبول نتائجها وإلا منابع المال والرواتب والاقتصاد الزاهر والتنمية التي تحقق معدلات عالية وانخفاض معدلات الفقر والبطالة الخ كل هذا سوف يزول في لحظة إذا لم يركع الشعب الفلسطيني أمام كيري ونتنياهو .
بالنظر إلى تاريخ شعبنا ودرجة المعاناة التي عاشها طوال خمس وستون عاما ، وما رآه وتعرض له من قتل وتشريد وتجويع وحصار وحروب طاحنة ، تجعله قد اكتسب مناعة قوية ضد كل الصدمات وكل الظروف ، هذا هو حال شعبنا في الشتات وفي داخل الوطن ، وتعالوا نستعرض بعجالة الأمور الثلاثة التي يحاول البعض ترهيب الفلسطينيين منها :
الأمر الأول احتمال شن إسرائيل حرب جديدة على قطاع غزة بهدف تدمير ومنع إطلاق الصواريخ من غزة ، صحيح إسرائيل لديها القوة العسكرية الهائلة لدخول قطاع غزة وإشاعة القتل الدمار والخراب فيه ، لكن هل سيباد أهل غزة عن بكرة أبيهم ، لقد تعرض سكان القطاع خلال الثلاثة عشر الماضية أي منذ بدابة انتفاضة الأقصى يوم 28/9/2000 إلى حروب عديدة منها اجتياحات عنيفة جعلت فيها القوات الاسرائيلة المناطق التي اجتاحتها وكأنها تعرضت إلى زلزال قوي جدا ، في احد المرات خرجت لرؤية مخلفات احد الاجتياحات في احد إحياء غزة ورابت شيئا مذهلا طرق رئيسية وكان جرافات عملاقة قد عملت فيها لدرجة أن شيكات المياه والصرف الصحي قد برزت إلى اعلي ، والبيوت المدمرة والأشجار المقتلعة وأعمدة الكهرباء والأسلاك بين التدمير والتقطيع ناهيك عن أعداد الشهداء والجرحى ، ومرت الأيام وهاهي المنطقة عادت من جديد تعج بالحياة وكان شيئا لم يكن ، وتنطبق المقولة التاريخية أننا كطائر العنقاء نخرج من بين الركام لنتحدى أعدائنا ، كذلك في الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2008/2009 سجل الشغب الفلسطيني في قطاع غزة أول سابقة في تاريخ الشعوب ، في انه لم يحاول احد منه الخروج خارج القطاع علما بأنه كان في إمكان أي مجموعة من النازحين اقتحام الحدود المصرية تحت وطأة ضربات الطائرات الحربية الإسرائيلية التي كانت الأرض تهتز كأن زلزالا قد حدث من شدة انفجاراتها ، ولكن هذا لم يحدث تمسك الفلسطيني بأرضة ولم تخيفه آلة الحرب الإسرائيلية التي كانت تحيط به من جميع الجهات .
إذن الحروب لن تخيفنا والجميع يتوقع الشهادة في أي وقت بل أن ثقافة الموت أصبحت من ثقافات هذا الشعب ، ثم أن تقديراتنا ومعرفتا لطبيعة الجيش الإسرائيلي، فهو لا يتوقع استقباله بالأحضان ، لذلك يخشى إلحاق خسائر فادحة بين صفوفه إذا دخل غزة وقادة الجيش الإسرائيلي يعرفون ذلك جيدا .
الأمر الثاني : مسالة انهيار السلطة ، كيف ستنهار السلطة هل السلطة دمية أو لعبة معرضة للتلف أو الكسر بسهوله ، المطلوب من الشعب الفلسطيني وقياداته شيء من تصليب الإرادة وعدم الخضوع للابتزاز الأمريكي الإسرائيلي ، لان الواقع يقول أن السلطة بمكوناتها السياسية والتنفيذية المفروض أنها في عداد المنتهية ، حيث أن انتهاء السلطة الفلسطينية قد حدث فعلا يوم 29/11/2012 عندما أيد العالم اجمع قرارا باعتبار فلسطين دولة بصفة مراقب في الأمم المتحدة ، فهي أصبحت دولة وليست سلطة ، ومسالة حصولها على عضوية عادية مسالة وقت ، وما على الفلسطينيين إلا أن يعيدوا هيكليات إداراتهم ومؤسساتهم على اعتبار أننا في دولة فلسطين ، وبالتالي سرعة الانضمام إلى المؤسسات والمنظمات الدولية وملاحقة مجرمي الحرب في إسرائيل عبر المحاكم الدولية ، والى الذين يخشون من انهيار السلطة أن يتوقفوا عن هذه الخشية لان إسرائيل يمكن أن تنسحب من الضفة الغربية بشكل أحادي الجانب كما فعلت في غزة ، وتثركم لكي تنظر وينظر العالم ماذا انتم فاعلون .
إذن نحن في موضع قوة وليس ضعف إذا أحسنا استغلال وضعنا وخياراتنا ولا نسمح لأي ابتزاز أمريكي أو غير أمريكي.
الأمر الثالث : إشاعة دخول جماعات إسلامية متطرفة ، اعتقد أن النسيج الاجتماعي الفلسطيني في قطاع غزة يجعله من أكثر جهات العالم ترابطا والتحاما ، حيث أن العلاقات الاجتماعية وعلاقات النسب ربما تربط النسبة الكبرى من أبناء القطاع بعضهم ببعض ، فمعظم العائلات الفلسطينية تجدها تربطها بعلاقات اجتماعية مع العديد من العائلات في مختلف مدن وقرى القطاع ، وبالتالي سوف يكون من الصعب لأي تنظيم إفساد هذه العلاقة ، ناهيك عن التجانس الديني والمذهبي ووحدة المعاناة والظروف المحيطة ، وفي نظري ما يثار حول هذا الموضوع هو محاولة البعض لخلق المبررات لعدوان خارجي على قطاع غزة.
إذن هذا هو شعبنا بدون مبالغة، شعب قوي، طحنته الظروف المحيطة وصقلته ، لا ينتظر فقط من قيادته إلا الإرادة الصادقة للعمل والعمل الجاد ، وستجد هذه القيادة كل الدعم من الشعب إذا أحس شعبنا بصدق النوايا ، لان شعبنا يتوق كثيرا لان يحيا مثل باقي شعوب الأرض على أرضه ودولته آمنا على حاضرو مستقبله ، وغير قابل للترهيب لا بالحروب ولا الحصار ، فقط المطلوب هو إعادة الاعتبار لهذا الشعب.