"فعلى صعيد إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وحماية بعض حقوق ضحاياه، لم يسأل التقرير الدول العربية تجهيز الجيوش لدحر الاحتلال أو تخصيص المليارات لدعم الفلسطينيين الصامدين على أرضهم. فقط التمس منهم حظر التعامل مع المستوطنات الإسرائيلية، وذلك تمثّلا بما قررته الدول الأوروبية، والعمل على استصدار قرار من المحكمة الدولية يحظر على إسرائيل إصدار شهادات منشأ لمنتجاتها، ويلزم الدول الأخرى بالتعامل مع المستوطنات في الأرض الفلسطينية والعربية المحتلة ككيانات غير شرعية".
ما سبق ليس مأخوذًا من بيان صادر عن مؤسسة فلسطينية أو من حركة تضامن مع القضية الفلسطينية، وإنما ورد في كلمة الدكتورة ريما خلف، الأمينة التنفيذية للأسكوا، في حفل إطلاق تقرير الأسكوا حول "التكامل العربي: سبيلًا لنهضة إنسانية"، الذي عقد في تونس في 25 شباط الماضي.
هذا التقرير - الذي كان لي الشرف المشاركة في حفل إطلاقه - يمثل قبسًا من نور يهدف إلى إضاءة الظلام المنتشر في المنطقة العربية بالرغم من انطلاق "الربيع العربي"، الذي كما جاء في كلمة خلف: ألهمت الثورة التي اندلعت فيه جميع العرب وأحيت لديهم آمالًا بالنهضة والعزة. آمالًا كانت قد اختطفت منهم عنوة تحت وطأة القمع والتخلف. لكن هذه الثورات دبت في الوقت نفسه حياة وحيوية في شرائح من المجتمع تزّلفت للاستبداد دهرًا واعتمدت على فساده، فهبت لإجهاض أي تغيير يضر بمصالحها، وأفرزت آليات للدفاع عن نفسها من جنسها. وعقدت هذه الشرائح تحالفات مع قوى إقليمية تقوض الديمقراطية في الجوار شرعيتها، وأخرى عالمية يهدد حكم الشعوب العربية لنفسها بعضًا من أهم مصالحها. وقد حاصر هذا التحالف قوى الثورة، وعرقل عجلة التحول الديمقراطي في أكثر من بلد عربي، مستخدمًا وسائل بعضها مستعار من أمهات المراجع الدولية في إحباط الثورات، وبعضها مستلهم من أدوات الثورات العربية ذاتها.
وفي مشهد عربي آخر استشرت قوى الماضي في قمع أي حراك شعبي، فأقامت بلدانها في فوضى هدامة، وشعوبها في صراعات مدنية. فبات البعض يتغنى بفشل الثورات العربية، والبعض الآخر يحذر من تبعاتها.
يتناول التقرير ما سمي بـ"الربيع العربي"، ويقر بأن درب التحول نحو الديمقراطية والحكم الصالح درب طويلة، ووعرة، ومحفوفة بالمخاطر. ولكنه لا يرى إمكاناتها لعودة الاستبداد حتى وإن ارتدى حلة العصر. فقد خلقت الثورات العربية إنسانًا جديدًا، كسر حاجز الخوف والقهر، وبات أكثر إدراكًا لحقيقته، أكثر ثقة بقدراته وإمكانياته، وأكثر اعتزازًا بثقافته، فانطلق في مسار لا رجعة عنه. قد يهزم هذا الإنسان في جولة، وقد يخسر بعضًا من حرياته في أخرى، ولكنه لن يستكين أو يساوم على كرامته حتى تتحقق أحلامًا له، أصبح يراها حقًا، لا منّة أو مكرمة من أحد.
تحت عنوان التحرر من الاحتلال ومن غلبة النفوذ الأجنبي جاء في التقرير:
احتلال فلسطين وأجزاء من سوريا ولبنان، ليس كما يظن البعض قضية تخص البلد المعني وحده؛ بل هو قضية عربية تعني الجميع، ليس لتعاطف الشعوب العربية مع الشعب الفلسطيني في محنته فحسب، بل أيضًا لأن استمرار الاحتلال يهدد حرية الإنسان العربي ورفاهيته في مختلف الأقطار العربية، والواقع غني بالشواهد على ذلك. والاحتلال هو أيضًا قضية دولية، إذ يخرق القانون الدولي الذي ارتضته شعوب العالم، ويهدد السلم الذي يناط حفظه بالمنظومة الدولية لإنقاذ (الأجيال المقبلة من ويلات الحرب).
فالقانون الدولي يحظر على كل الدول استخدام القوة لاحتلال أراضي الغير، كما يحمي الحق في مقاومة الاحتلال، لأن الاحتلال هو اغتيال للحرية واغتصاب للحق في تقرير المصير، الذي هو حق جوهري لكل شعب في الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، وفي ميثاق الأمم المتحدة.
وحيث فشل المجتمع الدولي، غالبًا بسبب حق النقض، في إلزام إسرائيل باحترام الشرعية الدولية وتنفيذ القرارات المتعلقة بإنهاء الاحتلال وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، باتت المسؤولية الكبرى تقع على كاهل أصحاب الحق في فلسطين والدول العربية لتنفيذ تلك القرارات. وبمقدور التكامل العربي أن ينجز ما فشلت في تحقيقه الأنظمة العربية، منفردة، عبر نصف قرن من الزمن، من إنهاء الاحتلال الغاصب لفلسطين بما ينسجم مع الشرعية الدولية.
وإزاء هذا الوضع يجب أن يستوفي أي حل شروطًا ثلاثة، هي: الانسحاب الإسرائيلي من جميع الأراضي المحتلة؛ وعودة اللاجئين إلى ديارهم التي هجروا منها، وعدم إقرار أي شروط للتسوية تتناقض مع حقوق الإنسان ومع أحكام ميثاق الأمم المتحدة، التي ترفض التمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين؛ والتوجه نحو إنهاء الصراع وليس فقط الوصول إلى تسوية مؤقتة.
يضاف إلى ما سبق أن فريق التقرير يرى أن ضرر السياسات الإسرائيلية لا يتوقف عند احتلالها للأراضي العربية، بل يقدّر أن السياسات العدوانية الإسرائيلية من دعم للفتنة في البلدان العربية سعيًا إلى إقامة دولة الطوائف فيها، إلى برنامج نووي يبقى خارج كل رقابة دولية؛ باتت مصدر خطر دائم على أمن المواطن العربي في المنطقة بأسرها.
ولعل أشد السياسات خطرًا كما قالت خلف هو إصرار إسرائيل على اعتبارها دولة لليهود فقط، منتهكة بذلك حقوق المسلمين والمسيحيين من سكان الأرض الأصليين، وفي إحياء لمفهوم النقاء العرقي والديني للدول الذي جلب على الإنسانية أقبح ويلات القرن العشرين.
لا يكتفي تقرير الأسكوا حول التكامل العربي بتشخيص الواقع العربي البائس الذي لا يسر صديقًا ويفرح كل الأعداء، بل وهذا هو الأهم، يقترح العلاج ويستشرف آفاق المستقبل.
فالتقرير يرى بأن الحقوق العربية لم تكن لتستباح بهذا الشكل السافر، وأن القدس لم تكن لتخنق تحت سياسات التهويد ومصادرة الأراضي وطرد السكان، وأن المقدسات الإسلامية والمسيحية لم تكن لتنتهك حرماتها، لو وحّد العرب مواقفهم، ونسقوا جهودهم حماية لها ولأنفسهم.
وحول أسباب القصور العربي، قالت خلف في كلمتها مستوحية ما تضمنه التقرير: إن كثيرًا منها عائد إلى علل ذاتية. لكن مشروع التكامل العربي لم يسلم من غوائل التدخل الخارجي الذي لم يبدأ مع بدء هذه المشروعات، بل تعود جذوره إلى ماضٍ بعيد. وقد عقدت قوى استعمارية العزم على منع أي جهد للتوحد بين العرب، فقطعت أوصال البر الشامي، وحفرت أخدودًا جغرافيًا وسياسيًا عميقًا في فلسطين لعزل مشرق العالم العربي عن مغربه.
وترتكز إستراتيجية التكامل التي يقترحها التقرير على أركان ثلاثة: أولها تعاون سياسي يدعم إقامة الحكم الديمقراطي الصالح الذي يضمن المساواة في المواطنة، والعيش في كنف الحرية والعدالة والكرامة لكل مواطن أينما حل في الوطن العربي. وفي رحاب التعاون السياسي هذا، يمكن للعرب تشكيل كتلة حرجة تحقق المناعة والمنعة لأعضائها، وتعمل متجانسة موحدة في المحافل الدولية لإنهاء الاستباحة المزمنة لحقوق العرب، ولتحرير ما اغتصب من أرض عربية.
وتدعو الإستراتيجية في ركنها الثاني إلى تعميق التكامل الاقتصادي بدءًا باستكمال تنفيذ نشاطات التكامل العربي القائمة، ووصولًا إلى إقامة وحدة اقتصادية عربية كاملة.
أما الركن الثالث للإستراتيجية، الذي ربما يكون الأكثر إلحاحًا: فهو الإصلاح الثقافي والتربوي الذي يعيد إحياء ثقافة الإبداع ويصلح ما أفسدته عصور الانحطاط والاستبداد في الفكر والعلم والأخلاق والقيم، ويفكك البنى الفكرية والثقافية المحركة لنزعات الانغلاق والتطرف، ونزاعات التبعية والانبهار بكل ما هو أجنبي.
قد تكون أركان الرؤية الإستراتيجية تبدو للبعض بالغة الطموح من منظور الواقع العربي الراهن. لكن منتهى هذه المسيرة يستحق العناء، وتأجيل الشروع بها لن يؤدي إلا إلى تطويل للإغراء بالتدخل، وتسعير لنار الفتنة الداخلية، وإهدار لطاقات المجتمع الخلاقة.
يكفي أن أورد في نهاية هذا المقال ما جاء في التقرير أنه بيّن بالتحليل العلمي الدقيق أن إجراءات بسيطة كتخفيض كلفة النقل وزيادة حجم العمالة المتبادلة بين الدول العربية سيرفع الناتج العربي بأكثر من 750 مليار دولار في غضون سنوات قليلة، وسيوفر أكثر من ستة ملايين فرصة عمل جديدة.