معاهدة ويستفاليا العربية

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

لم تعد اتفاقية سايكس بيكو تفي بالغرض، وتلبي الطموح، وتؤدي المطلوب، وتخدم السياسات الغربية، فقد مضى على هذا التقسيم قرابة المائة عام، وإن كانت في حينها مناسبة للقوى الاستعمارية الكبرى التي كانت سائدة ومهيمنة، فإنها لم تعد مناسبة في هذا الوقت، فقد استنفذت أغراضها، وتجاوزت صلاحيتها، وتراجعت القوى التي فرضتها، وبرزت قوى جديدة مختلفة، لها طموحاتها، وعندها برامجها الخاصة، ولها تطلعاتها وحساباتها المستقلة، التي قد تكون مختلفة عن الاستعماريين السابقين، الذين أسسوا بعد انتصارهم في يالطا، نظاماً عالمياً ثنائياً جديداً، تناسب مع القطبين، وتوافق مع القوتين، وأعاد تقسيم مناطق السيطرة والنفوذ بما يخدم مصالحهما.
لكن ظروف المنطقة العربية اليوم، تختلف كلياً عما كانت عليه مطلع القرن العشرين، أو نهاية نصفه الأول، إذ لم تكن الدول العربية تشهد هذه الإنقسامات الداخلية الرأسية الحادة، والتناقضات الشديدة، والصراعات المسلحة، وكانت تطلعاتها تنصب على الحرية والسيادة والتخلص من الاستعمار، والتي كان يناسبها تقسيمٌ سياسي بالمقص، دون مراعاةٍ للطائفة والدين والعرق، أو التداخل السكاني والاختلاط العشائري، وإنما اكتفى مندبوا الدول الاستعمارية وقادة الدول المنتصرة، بالنظر إلى الخارطة السياسية، وتقسيمها بما يشبه المسطرة والمقص، بما يحقق تفرق العرب، وتفوق الغرب، والسماح للدولة العبرية بالنشوء والظهور.
لهذا يبدو أن الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط عموماً مقبلة على توقيع إتفاقية وستفاليا عربية، قد تكون مشابهة لإتفاقية ويستفاليا الأوروبية، التي وضعت حداً للحرب الطائفية بين الكاثوليك والبروتستانت في العام 1648، ولكنها أسست لتوازنٍ دولي حقيقي، تقاسمته الدول الكبرى في حينها، واحترمتها دول العالم لسنواتٍ طويلة، رغم أنها كانت أول معاهدة دولية متعددة الأطراف، تتعامل مع أزمات دولية حادة، وهي وإن كانت معاهدة قديمة، إلا أنها انتبهت كثيراً للعرق واللغة والمذهب، وحاولت أن تعزل عوامل الإنقسام، وتسحب فتائل التفجير بين المكونات السياسية الجديدة.
يخطئ من يظن أن الدول الكبرى، التي تتصارع على النفوذ والهيمنة في المنطقة العربية، جاهزة لأن تستمع إلى ممثلي العرب، وقادة دولها، وزعماء شعوبها، فإنهم وإن بدوا أنهم يحترمونهم ويستدعونهم، ويزورونهم ويستمعون إليهم، فإنهم في الحقيقة لا يستجيبون لهم، ولا يحترمون رأيهم، ولا يقدرون ظرفهم، ولا يقدمون مصلحتهم، ولا يعنيهم من أمرهم شئ، ولا يهمهم أن يلتزموا معهم بكلمة، أو أن يحافظوا معهم على عهدٍ، أو أن يفوا لهم بوعد، فهذه المنطلقات الأخلاقية لا تعنيهم إذا اصطدمت بالمصالح والمنافع الخاصة.
ويخطئ من يظن أنه لم يعد في العرب مطمع، وليس عندهم فائدةٌ أو منفعة، وأن الغرب ليس بحاجةٍ لهم، وقد استغنى عنهم، وأوجد بدائل غيرهم، لكن الحقيقة التي لا يمكن إغفالها أن العالم العربي مازال يحتفظ بقدره وقيمته، ويتميز بموقعه ومكانته، سواء المطلة على البحار الهامة، والمضائق الأساسية، والمعابر الدولية إلى كل الكون، أو كون الأرض العربية ما زالت تختزن في جوفها أعلى الاحتياطات النفطية والغازية في العالم، وأن مخزوناتها الجوفية غير مقدرة بدقة، إذ بعضها يتجدد، وغيرها يكتشف من جديد.
كما تبقى الدول العربية مهمة جداً لدى الغرب، كونها الإطار المحيط بإسرائيل، والمطوق لها، والمهدد أو الآمن لها، وقرار الغرب صارمٌ تجاه كل من يهدد أمن إسرائيل، أو يعرضها للخطر، لهذا فإن أي ترتيبٍ جديدٍ للمنطقة، يجب أن يأخذ بعين الإعتبار المصالح الإسرائيلية، ومستقبلها الآمن الواعد الواثق المتفوق، فلا ينبغي أن تكون إلى جوارها دولٌ مارقة، ولا أنظمة قومية معادية، ولا حكوماتٍ متطرفة متشددة، تنطلق في عدائها لإسرائيل من منطلقاتٍ عقائدية، وترفض الاعتراف بوجود إسرائيل، ولا تقبل التسليم ببقائها، بل يجب أن ترسم حدودُ دولٍ جديدة، لا تكون إسرائيل عدواً لها، ولا على رأس أولوياتها، ولا يعنيها صراع غيرها معها.
لهذا لا نستغرب أن نسمع قريباً عن ويستفاليا عربية جديدة، تكون أقطابها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا ودول أوروبا الغربية، وتكون معهم إسرائيل حاضرة حكماً، كونها المعني بالتقسيم، والمستفيدة منها، والحريصة عليه، والخائفة منه، وقد تكون هي الناظمة والمنظمة والمنسقة، وهي الداعية والمحددة للبرنامج والتصورات، وهي التي ستضع الخطط والخيارات، لأنها تريد أن تكون دولةً يهودية، وتشكلُ دولٍ دينية وطائفية، يساعدها في تحقيق هدفها، والوصول إلى غايتها.
ويستفاليا العربية ستكون قاسية وحادة ومؤلمة، وسيستخدم القائمون عليها سكيناً صدئة غير حادة، وسيقطعون دون رحمةٍ جسد الأمة، وسيمزقون كيف شاؤوا، وستكون السودان مع الجنوب المنفصل أربعة دولٍ، وفق اللون والعرق واللسان، وستكون مصر دولتين، مسلمةً وقبطية، وأما العراق فهو جاهز للانقسام إلى أكثر من ثلاثةٍ، غير الكردية والسنية والشيعية، إذ فيها أقلياتٌ قد يشكلون دولة، وقد يتحدون في إطار.
أما السعودية فهي ثلاث دولٍ حكماً، وقد بدأت تتشكل، مع إعادة توزيعٍ للأراضي والمساحات، فهي أكبر من أن تكون ثلاث دولٍ، ومن جاورها أصغر من أن تكون دولاً مستقلة، فلا بأس من إعادة رسم الخطوط السياسية، بعد انشطار السعودية التي ستفقد اسمها إلى ثلاثة أقسام، على تتسع الإمارات المحيطة، وتكبر مساحتها قليلاً، لأنها في الأساس تخدم المصالح الغربية وتتفق معها.
وقد سبق اليمن بوضع علاماتٍ للتقسيم، واستعد لدويلاتٍ كثيرة، بعد الاتفاقيات الأخيرة، التي أجازت إعادة تقسيم الدولة إلى أقاليم، على أن يتشكل من اتحاد كونفدرالي، الذي سيسهل تفككه بعد ذلك إلى دولٍ مستقلة ومتصارعة، لا شئ يجمعها، ولا يوجد ما يوحدها، بل فيها ما يمزقها ويشتتها أكثر.
أما سوريا فقد وضعت تحت المقص، وأصبحت ظروفها ناضجة للخروج من أزمتها، لكن بعد أن يعود المخططون إلى خرائط الإنتداب الفرنسي القديمة، التي اقترحت تقسيمها إلى أربعة دول، تتفق في المذهب والطائفة، وتتوحد في الدين والعرق، وبذات الطريقة سيكون حل مشاكل لبنان، بتقسيمه إلى دولٍ دينية ومذهبية، ليكون مثالاً على دولة الطوائف الصغيرة، وإمارات المذاهب الضيقة.
لكن هل ستستمر الحروب والمعارك في منطقة الشرق الأوسط ثلاثين سنة، كما استمرت بين الكاثوليك والبروتسانت في أوروبا، قبل أن تتمكن القوى الكبرى المتربعة على سدة القرار العالمي، من الاجتماع معاً، للتفاهم على الصيغة الدولية الجديدة، التي لا تتعلق أبداً بحاجات سكان المنطقة، ولا تراعي مصالح دولها، وإنما تتطلع إلى مصالح الدول الكبرى، ومناطق نفوذها، وما كانت هذه الإتفاقية وما بعدها لتوقع، لولا تفاهم الدول لكبرى على تقسيم الغنائم فيما بينهم، وإن كانت الغنائم احتلالاً لدولٍ، وتقسيماً لأخرى، وشطباً لبعضها، ومصادرةً لحقوقٍ، وانتهاكاً لسياداتٍ، وتعدياً على مصالح.

https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected] بيروت في 7/3/2014