إحذروا "يهودية الدولة"

بقلم: أسامة الوحيدي

الاعتراف بيهودية الدولة بات مطلبا إسرائيليا وأمريكيا ملحا وحاسما ، فقد تحول إلي شرط إضافي من المؤكد أنه سيحول دون التوصل إلي اتفاق سلام نهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين حتى وإن تم التغلب علي تعقيدات الملفات العالقة بين الطرفين والتي جرى التفاوض عليها لأكثر من 20 عاما.

الاعتراف بيهودية الدولة هو مطلب دخيل وجديد علي طاولة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية منذ أن بدأت عملية السلام بين الطرفين ، فلم يأتي علي ذكره والحديث عنه بقوة في الأوساط الإسرائيلية كما عليه الحال في هذه المرحلة ، فمبدأ الاعتراف بين الطرفين قد تحقق كمقدمة للتفاوض وقد تجسد ذلك عمليا ضمن رسائل الإعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الإحتلال عشية توقيع إعلان المبادئ ( أوسلو ) عام 1993 حيث لم يطلب من الفلسطينيين آنذاك الاعتراف بيهودية الدولية ، وهذا ما يؤكد علي بروز متغير جديد في السياسة الإسرائيلية كان لابد من صياغته وإقراره في هذه المرحلة بالذات نظرا للعديد من الأسباب والحسابات التي تأخذها دولة الإحتلال بعين الإعتبار.

يبدو أن الرؤية الإسرائيلية المتعلقة بيهودية الدولة قد تبلورت بعد تنامي النزعة اليمينية المتطرفة داخل الكيان إضافة إلي صعود غلاة المستوطنين والمتدينين إلي سدة الحكم ودوائر صناعة القرار في دولة الإحتلال ، ففي الرابع من حزيران 2003، ألقى شارون خطاباً في مدينة العقبة الأردنية، طالب فيه الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية ، ثم تصاعد الترويج لهذا الطرح علي ألسنة العديد من الساسة الإسرائيليين المتطرفين أمثال إيهود أولمرت ونتنياهو ووزير خارجيته أفيقدور ليبرمان.

وبالتأكيد فإن من أرسى أسس وقواعد الدولة اليهودية هو ثيودور هرتزل الأب الروحي للحركة الصهيونية صاحب كتاب "دولة اليهود" الذي أوصى بإنشاء وطن قومي لليهود ، وقد تعددت وتباينت الاقتراحات أمام هرتزل حول مكان إقامة هذه الدولة ، وكان خلاصة ما توصل له هو إقامة الوطن القومي لليهود علي أرض فلسطين نظرا للادعاء المزعوم بارتباط اليهود التاريخي والعقائدي بهذه الأرض ، ومن أجل جذب يهود العالم المشتتين في أصقاع الأرض لهذه الفكرة المصبوغة بالبعد العقائدي والديني ، وذلك بعد أن رفض غالبية اليهود العديد من الاقتراحات السابقة بإقامة دولتهم في مناطق متعددة من العالم كالأرجنتين وأوغندا وشبه جزيرة سيناء.

وبعد أن اقترب الحلم الصهيوني علي التحقق بفضل وعد بلفور المشؤوم عام 1917 ، بدأ الحماس لفكرة إقامة دولة يهودية صرفة بالتراجع وأصبح التوجه نحو إقامة دولة علمانية ديمقراطية مع الحفاظ علي الطابع الديني والعقائدي كإطار مستتر لهذه الدولة ، خاصة بعد انهيار وهزيمة نماذج الدولة الدينية المتمثلة آنذاك بالكنيسة القيصرية في روسيا عام 1917 والدولة العثمانية في تركيا عام 1923 ، وقد جاءت هزيمتهما في فترات متزامنة مع وعد بلفور والذي اعتبر بأنه أولي الخطوات العملية لإقامة دولة إسرائيل علي أنقاض الشعب الفلسطيني.

وبناء علي ذلك وعشية إعلان قيام دولة إسرائيل ، آثر اليهود تسمية دولتهم بأرض إسرائيل بدلا من تسميتها بيهودا أو عبير أو صهيون وذلك لإن هذه النعوت والتسميات تستخدم للإشارة إلي الديانة اليهودية ومجموعة عرقية محددة ، وهذا سيكون ضارا لدولة ناشئة تسعى إلي اعتراف أممي بوجودها ونظرا لوجود المسلمين والمسيحيين في هذه الدولة.

اليوم وبعد أكثر من 67 عاما علي احتلال فلسطين وإقامة دولة إسرائيل أصبحت هذه الدولة وحسب كافة المراقبين تواجه خطرا وجوديا يتهدد مستقبلها بفعل العديد من العوامل والأسباب لعل أهمها هو صعود التيارات الإسلامية المعادية لهذه الدولة في العالم العربي والإسلامي ومحاولة تلك التيارات أسلمة القضية الفلسطينية بهدف توسيع رقعة الصراع مع الإحتلال ، الأمر الذي دفع بساسة الصهيونية العالمية للبحث عن معطيات جديدة تستخدمها في أتون الصراع المحتدم مع الفلسطينيين والعرب والمسلمين فكانت المطالبة بالاعتراف الفلسطيني بالدولة اليهودية كأحد هذه المعطيات التي تهدف إلي تقزيم الصراع وقصره علي أصحاب الأرض الأصليين واشتراط السماح لهم بإقامة دولتهم مقابل اعترافهم بيهودية الدولة.

إن الإعتراف بالدولة اليهودية أو يهودية الدولة هو بمثابة التحدي الأكبر الذي يواجه القضية الفلسطينية وهو الخطر الأعظم الذي يهدد الهوية الدينية والقومية للشعب الفلسطيني ، لأنه يعني بشكل لا يقبل التأويل اعتراف الفلسطينيين بصدق الرواية السردية لتاريخ اليهود وإدعاء ملكيتهم لأرض فلسطين ، وهو من جهة ثانية يشطب الحق التاريخي والعقائدي للفلسطينيين في أرضهم وهو إنكار لموروثهم الثقافي منذ أن وطأت أقدام الكنعانيين وقبائل البليست أرض فلسطين قبل آلاف السنين.

وبالتأكيد فإن الإعتراف بيهودية الدولة سيقود إلي تجريم النضال الوطني الفلسطيني منذ بداية الإحتلال باعتباره إرهابا غير مشروع ضد أصحاب الأرض الذين عادوا إلي أرضهم التاريخية بعد قرون من التشرد والشتات وهكذا يصبح من ساهم وشارك في النضال الوطني الفلسطيني هو مجرم بحق اليهود ولابد من ملاحقته ومحاكمته ، ناهيك عن أن ذلك سيؤدي إلي طرد غير اليهود من الفلسطينيين المسلمين والنصارى من دولة اليهود.

لذا فإن الرفض وقلب طاولة المفاوضات يجب أن يكون الرد الطبيعي علي هذا المطلب الذي تحول مؤخرا إلي مطلب أمريكي بامتياز بعد تبنيه إسرائيليا ، ولا بد من التصدي له بحزم وقوة حتى وإن تسبب ذلك في وقف المفاوضات وفرض عقوبات علي الفلسطينيين ، فسعينا وراء السلام وبحثنا عن الدولة والأمان يجب ألا يكون علي حساب تاريخنا وعقيدتنا ،فالتاريخ لن يرحمنا إن تجرأنا علي تزويره وشطب وقائعه ، لذا ....فلا ضير أن نعد العدة لأسوأ الاحتمالات وأن نكون علي قدر المسئولية بوحدتنا وتماسكنا وإدراكنا لخطورة ما يحاك لسلخنا عن قضيتنا وأرضنا وتاريخنا.