عبد الله الزق، مفكّر على ناصية الجهاد

آحترت وانا ابحث عن كلمات تنصف فكر هذا الرجل ليس لضعف في عطائه ولا لشحّ في مادة معرفته التي يقدّم ولكن بسبب ضعف وعي القارئ العربي الذي يهمل أصحاب الفكر بآستمرار. إذ كيف لي أن أقدّم شخصية منطقية المنهج، عقلانية التوجه، صارمة التفكير، بالنسبة لهذا القارئ الذي لا يهتم كثيرا بلغة الفكر وصرامة العقل إلا ما لامس وجدانه منها.
لكن ثقتي في دقة وبلاغة فكره ستسعفني في محاولة جادة لتوصيف فكره علّ هذه الدقة والبلاغة ذاتها تسعف هذا القارئ العربي في أن يستقبل لاحقا فكر الأستاذ عبد الله الزق بسلاسة وآنتباه.

لقد كَبُر أسفي وأنا التي عرفته صديقا وأخا حين عرفت ببضع وجعه لمّا أدركت حجم الفاجعة لكتابات دوّنت خلاصة تجربة فكرية كاملة وقد أفتكت منه داخل الأسر من عدوّ يدرك أن الكلمة الحرة أبقى وأحيى في أرواح الناس من الفرح المؤقت لآنتصار يتدرّج على سلّم العمليات الفدائية.
ما أشد قسوة فقدان الإنسان المفكر لكتاباته وخاصة كتابات ذات معنى عميق يمكن لها أن تضيف لواقع متعب بثقل الجهل و مائل إلى الاشتكاء الصفيق من عوز الحاجة الى المعرفة.
حين اطلعت على مجموعة من مداخلاته الإذاعية (الكثيرة) وقرأت له مجموعة من مقالاته المطوّلة والقصيرة أدركت انه ليس بشخصية إسلامية بسيطة تتخذ من النهج الإسلامي سبيل نجاة وراثي، بل هو الذي فهم الفكر الإسلامي منهج ثورة عقلية كاملة.
عبد الله الزق، يتخذ المنهج العقلي ركيزة لفهم الإسلام ومنهجية إصلاح عقائدي وفكري، و رغم إدراكه التام أن هذا هو المنهج الأصيل للإسلام الا أن وعيه بأن المسلمين منذ مئات السنين ما عادوا للمسار العقلي منتهجين وهذا سبب بحثه الجاد في الإصلاح العقائدي الذي غلب عليه السائد والموروث وقام فيه مقام الأصل.
حين تابعت فكره أدركت إيغال قسوة الجهل في هذه الأمة وذكرني بقلق كبير آنتابني حين تعثّرت بكتابات الشهيد فتحي الشقاقي التي جُمعت بعد استشهاده بزمن طويل فهل قدر المفكرين عندنا أن تفنى أعمارهم قبل أن يبتسموا لكلماتهم تسابقهم إلى عقول الناس؟
لماذا يُعرف الشاعر والروائي ولا يُعرف المفكّر عند شعوبنا العربية؟ ربما سؤالي آستنكاري إلى درجة انه لا يحن الى إجابة.
للفكر دوما عندنا وجاهة خاصة وكأنه موجّه فقط لفئة دون أخرى ولسخف الاعتقاد العربي ما تعب من تكرار ان المفكرين فئة تعيش في برج عاجي، ويتناسى العرب أنهم من شدة خوفهم من الكلمة وصلابة المعنى وصرامة المنهج العقلي سجنوا مفردات العقل في منارة حتى يستأنسوا بعتمة ظلمتهم.
أقول هذا لأن رجلا في فكر عبد الله الزق لا يُعطى مكانته التي يستحق في واقع حضارته أمر موجع خاصة وأنه يدعو لفكر إسلامي عقلاني أصيل بما يتطلّبه الوعي بقضايا الأمة من آتخاذ منهج واضح، هذا الوعي الذي تمزّق بين الأفكار العلمانية (التي مناخها يدخل في إطار تاريخ الحضارات الغربية التي عانت من سطوة الكنيسة وتحكمها في تلابيب السياسة حتى أسقطت كل غاياتها على جسد المجتمع سياسيا واقتصاديا وثقافيا) والأفكار الاشتراكية (التي أعلنت فشلها في مواطنها الأصلية) والأفكار السلفية (التي تدعو لدين جديد لا يمتّ للإسلام بصلة، دين بتزكية أمريكو-صهيوينة لصناعة شرق أوسط جديد وإعادة هيكلة الأرض العربية حسب متطلبات الامبريالية الجديدة).
ان النداء الذي يتبناه المفكر عبد الله الزق، ومن قبله الشهيد الشقاقي وبعض أذكياء المفكرين الإسلاميين المعاصرين الذين فهموا المنهج الإسلامي بعمق وبدقة تنأى به عن كل نقد غائي، هو نداء لآستخدام العقل الإسلامي بعيدا عن الغايات الاخوانية او الوهابية.
فهذا المنهج الإسلامي هو المنهج الوحيد الذي لا يقصي أي فكر ولا أي طائفة ولا أي ديانة اخرى.
عبد الله الزق فهم ديناميكية القضية العربية التي وإن تعددت وجوه عدوّها فأصله واحد، وإن تعددت وجوه مشاغلها ومشكلاتها فما ذلك إلا بغاية تحييدها عن القضية الاصل بل ومحور الخلل في التوازن العربي والاقليمي والديني وهي "فلسطين"، كما وأنه أدرك لعبة الاستخدام الوظيفي لمقولة التراث ولعبة الهوية فقال " توظيف العولمة للتراث كأحد أدوات العولمة في كسر الهوية وإلغائها في مواجهة التغريب والعولمة" فالتحريض على التمسك بالتراث التقليدي الوراثي كعملية تمسك بالهوية هو ضرب من تحطيم الهوية العربية الإسلامية كهوية واسعة تضم جملة من الهويات الفرعية فالتمسك بالتراث إنما هو ايغال في الجهل وابتعاد عن روح الإسلام التحرري.
وهو الذي طرح هذه التساؤلات فيما يخص البناء الحضاري بماهو أزمة إنسان أم أزمة بيئة:

"
كيف تشكل البيئة عاملا من عوامل النهضة ؟ وما الدور الحقيقي الذي تقوم به في ظل حالة التوافق والانسجام بين الإنسان وبيئته؟ 
ما هي عناصر البناء الحضاري في ضوء اختلال الأولويات ؟ وما مدى تأثير هذا الإختلال كمعوق في هذا البناء؟ 
وهل يمكن الحديث عن مشروع حضاري حقيقي بعيداً عن حالة الإستقرار الإجتماعي والسياسي والنفسي؟ "

ثم واجهها بالتحليل والإجابة بأن أزمة الانسان تتعمق داخل ازمة بيئته التي هي من صنيعه فتتكامل الازمتان سلبا وتسببان سقوط الصرح الحضاري في اللاتآلف الديناميكي فتصير عملية البناء إلى نهوض الانسان بذاته وعيا وعلما وثقافة، للتقاطع هذه الأفكار جميعها مع طروح تحليلية آخرى منها " الخطاب الثقافي أزمة معرفة أم أزمة منهج" و" مقومات النهضة في ضوء المشروع الاسلامي المعاصر".
كما يتعرّض مفكّرنا بالتحليل لظاهرة الشتات الحزبي داخل الحركة الإسلامية الكبيرة في طرح تحليلي بعنوان "الأنا الحركية قراءة جديدة في واقع الحركة الإسلامية المعاصرة".
ولم يهمل هذا المفكّر إشكالية الخطاب الاسلامي الذي أضحى معوّقا من معوّقات الفهم الإسلامي وتناول هذا الإشكال بالطرح التحليلي في مداخلة بعنوان "الدعوة الى الاسلام واشكالية الخطاب الديني".
هكذا هو هذا المفكّر، لا يطرح فقط رؤاه بل يحلّل الرؤية ويعطي مقوّمات صوابية المنهج المتبع لإنهاء المشكل وقيمومة الحل.

إذا رمت الإطالة أكثر فسيكون كلامي من قبيل السرد الممل لكن حسبي أن أقول ختاما بأن الأستاذ عبد الله الزق رجل مهموم بقضايا أمته، رجل قارئ بآمتياز، رجل يصوم الليل قراءة وفهما ليفطر بعد ذلك نصّا يخطّه عقله الصلب ومنهجيته المنطقية في الإدراك.
هذا المفكّر المسلم وإسلامي الرؤية هو رجل من زمن لا يتزيّن بكثرة المفكّرين إلا آصطفاء.


*
عبد الله الزق (أبو سليمان) من وجوه الحركة المناضلة الفلسطينية وهو أحد مبعدي مرج الزهور 1992/1993 وقد عانى الأسر لدى العدوّ الاسرائيلي لمدة 18 سنة.

بقلم: غادة زقروبة (تونس)