طبقية الدولة وظلم السلطة

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

الدولةُ لا تحترم العقد الاجتماعي الذي بينها وبين مواطنيها، ولا تحفظ حقوقهم تجاهها، ولا تفي بالتزاماتها معهم، ولا تحفظ العهد القائم بينهما، رغم أنها موجودةٌ لأجلهم، وقائمة بسببهم، بحجة تمثيلهم والقيام بأعبائهم، وتمثيلهم والنيابة عنهم، وفق شروطٍ قديمة، والتزاماتٍ بين الطرفين باتت معروفة.

إلا أنها أصبحت باغيةً ومتسلطة، وظالمةً وغاشمة، ومعتديةً ومستبدة، وجائرة وقاسية، لا تقيم العدل، ولا تحقق المساواة، ولا تنصف بين مواطنيها، ولا تهتم بمعاناتهم، ولا تقلق على أوضاعهم، ولا تسعى لتحقيق مصالحهم، ولا تبذل الجهد الكافي للتخفيف عنهم، أو مساعدتهم والنهوض بهم، وتوفير احتياجاتهم، وضمان مستقبلهم، وتأمين ضعفهم وشيخوختهم.

في الوقت الذي تثقل فيه كواهلهم بالضرائب والمكوس، والرسوم والطوابع والدمغات، بحجة توفير الدعم، وتسديد الديون، وتغطية السلاسل والحقوق، وتسليح الجيش وتطوير قدراته، والدفاع عن البلاد وحماية الثغور والحدود، وتأمين الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية، وغير ذلك من النفقات التي تدعي الدولة أنها عامةً للشعب، وأنها تخص كل المواطنين، وتخدم لهم كل الطبقات، دون تمييزٍ أو مفاضلة.

إلا أن الحقيقة غير ذلك، فالسلطات غير منصفةٍ وغير عادلة، وهي ليست نزيهة ولا نظيفة، ولا تساوي بين أبنائها، ولا تعدل بين مواطنيها، فهي تخدم الكبار وتهمل الصغار، وتعنى بشؤون الأغنياء وتنسى هموم الفقراء، وتدافع عن الأقوياء وتغمض عيونها عن حاجات الضعفاء، وتنتصر للظالمين القادرين، وتدير ظهرها لمظالم البسطاء المحرومين، وتساند المعتدين وتعاقب الضحايا، وتؤيد القتلة والمجرمين، وتدين القتلى والمعذبين، وتحاسب عامة المواطنين إن أخطأوا، وتعفوا عن خاصتهم من أبناء الذوات، وأهل السلطة واليسار إن هم بغوا واعتدوا، وأخطأوا وأساؤوا.

وهي التي تخلق بين مواطنيها العداوات والخصومات، والاختلافات والتناقضات، وتجعل بينهم فوراق وفواصل، وتصنفهم طبقاتٍ ومنازل، وأسياداً وعبيداً، وسراةً وعراةً، وخداماً ومخدومين، ما يخلق في المجتمعات شروخاتٍ وانقسامات، ويولد عداواتٍ وأحقاداً، ويضعف الإخلاص والولاء، ويفقد الانتماء والانتساب، ويدفع المواطنين للاهتمام بشؤون، والانشغال عن الوطن بحاجاتهم، وهو الأمر الذي يسهل الاختراقات والارتباطات، ويمكن الخصوم من الولوج إلى الدول والتجسس على السلطات والحكومات.

شوارعُ الأغنياء مرصوفةٌ ومنارة، ونظيفةٌ ومشجرة، وواسعةٌ وعريضة، وفيها ممراتٌ وأرصفة، محددةٌ منازلها ومرقمة، ومحروسةٌ أحياؤها ومحمية، ومنظمةٌ أبنيتها ومسيجة، ومرتبةٌ مساكنها وجميلة، كثيرةٌ حدائقها مزدانة، ومخدمةٌ مرافقها بانتظامٍ دائمٍ، فلا تنقطع عنها الكهرباء ولا خدمات الاتصالات ومياه الشرب، ولا تتجمع قمامتها في الشوارع، ولا يغيب عمال النظافة عنها، ينظفون شوراعها، ويرشون أماكن القمامة بالمبيدات والمطهرات، ويتفقدون العيوب، ويصلحون الطرقات، ويلبون كل اتصال، ويستجيبون لكل نداء، ويهبون لإنقاذ كل مستغيثٍ ومحتاج، ولا يتأخرون عن حالةٍ أو إسعاف، ولا عن طارئٍ ومفاجئ.

بينما تترك طرق الفقراء مظلمة محفورة، منبوشة كالقبور، ومبعثرة كالأشلاء، رمليةً غير مرصوفة، أو طينيةً موحلة، يعج غبارها الخانق، ويتطاير في سمائها القش والأوراق، والنايلون والأكياس، وغيره مما خف وزنه وكثر في الشوارع والأزقة والطرقات، وتتوزع القمامة كيفما اتفق، في الشوارع والأزقة، دون حاوياتٍ أو مجمعات، في الصيف أو الشتاء، التي تحوي كل قذرٍ ومنتن، ففيها حيواناتٌ نافقة، وفضلاتٌ آدمية وحيوانية، وغير ذلك مما يولد روائح خبيثة وسيئة، تكاد تخنق الأنفاس، مع ما تحمل من أوبئةٍ وأمراض، وما توفر من بيئاتٍ مناسبة للذباب ومختلف أنواع الحشارات القارصة والضارة.

الدولة عن هذه الأحياء غافلة، وعن حاجات السكان نائمة، لا تعيرهم اهتماماً، ولا تفكر بهم، ولا تقلق عليهم، ولا يعنيها مصيرهم، ولا تسعى لمساعدتهم، ولا تبذل أي جهدٍ لاستنقاذهم، ولا يهمها ما يصيبهم من أمراض، أو يلحق بهم من أذى، فهذه المساكن، إن صح أن يطلق عليها اسم مساكن، فإنها عشوائية، أو هي مخيماتٌ وتجمعاتٌ سكنية، يسكنها الفقراء والمعوزون، والعمال والفلاحون، والخدمة والفنيون، ممن يقومون بأعمال الخدمة، ويؤدون مهاماً يراها غيرهم وضيعة، وإن كانوا لا يستطيعون العيش بدونها، أو الاستمتاع بالحياة بغيرها، ومع حاجتهم لهم، فإنهم يهملون أمرهم، ولا يعنون بشؤونهم.

تخطئ الدولة أو السلطة عندما تفرق بين مواطنيها، وتمايز بينهم، وتكرس واقع الطبقية عندهم، فتعقد أن بعضهم مكرمين معززين، أو هكذا الله خلقهم، صنفاً آخر، وطرازاً مختلفاً، فهم أهلٌ للخدمة والرفعة، وأنهم يستحقون الاهتمام والتقدير، والعناية والإكرام، وأنه لا يجوز التقصير معهم، أو التأخر عن خدمتهم، فهم واجهة الدولة، وعنوان المجتمع، وصورته الجميلة لدى العالم، وسمعتهم المتقدمة بين الأمم.

بينما غيرهم ليسوا إلا عبيداً للخدمة، وآلاتٍ للعمل، فلا يضير إن هي أساءت معاملتهم، أو أخطأت في حقهم، أو قصرت في خدمتهم، أو تأخرت وتوانت عن نجدتهم، ولم تعجل في الاستجابة إلى شروطهم، وتلبية حاجاتهم، إذ يجوز إهمالهم، ويمكن التقصير معهم، لا لأنهم أهل البلاد الأصلاء، وسكانه الشرفاء، والأقدر تحملاً للعنت والمعاناة، والأصبر على الظروف وتمرير الصروف.

بل لأنهم بمفهومهم، لا يستحقون بذل المزيد من الجهود لأجلهم، فهكذا قد خلقهم الله وأرادهم، وأردى حياتهم وأركس عيشهم، إذ يكفيهم مكانٌ فيه ينامون، وقصعة منها يأكلون، وكوباً فيه يشربون، وبعض أسمالٍ بالية بها يتدثرون أو يتسترون، ولا شئ آخر تتكفل به تجاههم، فلا تأمين صحي، ولا ضمانة شيخوخة، ولا معاشات تقاعد، ولا دعم لتعليمٍ، ولا شئ مما يشعر الإنسان بطمأنينةٍ على مستقبله، وسترٍ كريمٍ في آخر أيامه.

يدعي البعض أن الدولة أو السلطة لا تقصر تجاه مواطنيها، ولا تتأخر عن مساعدتهم، بل إنها تنفق مبالغ كبيرة من ميزانيتها، لتغطية نفقات الطبقات الفقيرة، فتدعم السلع الأساسية، وتُشرِّح فاتورة الهاتف والماء والكهرباء، بما يجعلهم يدفعون الحد الأدنى، وتقدم لهم خدماتٍ كثيرة، وتخفف من نسبة ما يجبى منهم، وتوفر لهم خدماتٍ صحية عديدة في المستشفيات والمصحات الحكومية، وقد تعفيهم من كثيرٍ من نفقات العلاج، وغير ذلك من الخدمات التي تراها مخصصة لهم.

السلطة تعلم أنها طبقية وتكذب، وأنها تنفق على الأغنياء أضعاف ما تنفقه على الفقراء، وتعطي القادرين ما لا تعطيه للفقراء المحتاجين والمعوزين، ثم يستغربون، لماذا الثورة، ولماذا يسعى المواطنون إلى اللجوء والهجرة.