رحلتي الى جنوب افريقيا: طريق واحد أم أكثر

بقلم: سامية الزبيدي

طريق طويل الى جنوب افريقيا، لكنه لن يكون أطول ولا أشق من الطريق الذي قطعه الراحل نيلسون مانديلا نحو الحرية، آخذاً شعبه من صنوف التمييز العنصري الى دولة التسامح والعدالة لكل مواطنيها، من دولة افريقية في قارة يغلب عليها الفقر والجوع والمرض إلى دولة بسمات أوروبية اقتصاداً وحضارة.

ومن بين الآلاف العالقين في انتظار فتح "معبر رفح" على الحدود الفلسطينية المصرية جنوب قطاع غزة، وبعد أكثر من 45 يوماً من الاغلاق المستمر من قبل السلطات المصرية، واستمرار اغلاق معابر القطاع امام أكثر من مليون و700 ألف فلسطيني الا من انتقائية شديدة يمارسها الاحتلال، فيسمح لفرد ويرفض بالجملة مرور آلاف الفلسطينيين الى اراضيهم المحتلة او عبرها الى اصقاع العالم.

من بين كل هؤلاء، وبعد أكثر من شهر من المحاولات المستمرة للخروج من القطاع لتلبية دعوة لي بالمشاركة والتغطية الاعلامية لاسبوع الابارتيد الاسرائيلي سواء عبر معبر بيت حانون أو رفح في  أعقاب مقال سابق لي بعنوان: "سيادة الرئيس: هل لنا من لقاء؟".

لأخرج بفضل جهود السفير الفلسطيني في جمهورية جنوب افريقيا عبد الحفيظ نوفل، وعلى لسانه، من عالم التفاصيل الشاق في خلافاتنا الفلسطينية/ الفلسطينية وتبايناتنا السياسية والفكرية الى عالم آخر يجتهد فيه آلاف المتضامنين مع الشعب الفلسطيني من أجل تعرية نظام الفصل العنصري الاسرائيلي ومحاصرته.

وان كان في رؤية الامور من الخارج الكثير من الأمل والعمل -الأمل بامكان تغيير مواقف العالم ازاء صراعنا المختل مع المحتل، والعمل برؤية وجهد منظم للوصول الى ذلك- فان التعمق في تفاصيل وضعنا بالداخل مع ما يثيره من احباط ويأس جراء ضبابية الرؤية السياسية وغلبة الصراع المصلحي على الأطراف المتحكمة بقضيتنا، فإن هذا التعمق لم يأخذنا بعد إلى أي منافذ جديدة.

وربما يكون الحل بالجمع بين الرؤيتين، وتغليب المصلحة الوطنية للشعب الفلسطيني وقضيته وما يخدمها عن تباينات المختلفين الداخلية ومصالحهم الآنية.

على أي حال، لم يكن الخروج من معبر رفح سهلاً، كما لم يكن ختم جوازي الفلسطيني على الجانب المصري منه مع فترة سماح بالتواجد على أرض مصر الحبيبة لـ 72 ساعة فقط، أمراً اعتيادياً عليّ.

وعلى رغم أن الخروج من المعبر، الذي يتعلق بفتحه وإغلاقه أرواح آلاف المرضى والطلبة والعاملين من كل الاتجاهات، نادراً ما كان سهلاً على الفلسطينيين، الذين لا يختلف أحد على عدالة قضيتهم ولكنهم يتفقون جميعاً على التعامل الأمني الحذر معهم.

ومصر التي كان الفلسطينيون يتنفسون عبرها عبير بعض الحرية من تعب احتلال وحصار قارب سبعة عقود، طال الطريق إليها أكثر فأكثر.

ثمان ساعات على الأقل للخروج من المعبر، جعلتنا تحت خطر الرصاص، الذي أطلقه جندي مصري في الهواء بكثافة، لينهي جدلاً محتدماً بيني وبين زملائي المسافرين مع السائقين حول أجرة النقل الى القاهرة.

الطريق إلى القاهرة، استغرق أكثر من عشرة ساعات وسط اجراءات امنية مشددة، وحواجز تفتيش، وتدقيق متعددة، لازال الحب يطفح من خلالها للفلسطينيين والانتماء لقضيتهم، لكنه جاء هذه المرة مشروطاً بـ"انتو مع حماس؟!"، لتعود خفة الدم المصرية، وأدب الخطاب من قبل الجند الصغار والضباط الكبار فور احساسهم بصدق ما نقول: "احنا بنحب مصر..وطول عمرنا شعب واحد".

على أحد الحواجز، حيث طلبوا جهاز الحاسوب الخاص بي "لاب توب" لفحصه، طال النقاش مع عدد من الضباط والعساكر، كانوا يهاجموننا "انتو ما بتثوروش على حماس ليه؟"، تفهمي لتغير المزاج المصري الذي لعب الاعلام الذي أمتهنه دوراً فيه، لم يمنعنِ من اظهار غيرتي على فلسطينيتي وقضيتي، فدافعت عن الأهمية التي تمثلها حماس كحركة مقاومة في الساحة الفلسطينية، وتناغمت معهم في قناعتي التي عبرت عنها بأنني غير راضية عن حكمها، لكن ما يوقفنا عن التغيير أن لا بديل لدينا في الساحة الفلسطينية.

يتعزز لدي في كل مرة أزور بها مصر، وأحاور بعض أهلها، أن شعبها دافق المحبة وسريع التأثر..صاحب نخوة وشهامة، وهو ما طمأنني الى أن توتر العلاقة..غيمة سوداء ستنصرف سريعاً.

أعاد لي الضابط جهاز اللاب توب، مشتكياً من كثر ملفاته، فتابعنا طريقنا الذي ساورنا الشك في انتهاءه، لأصل الى دربي الساعة الرابعة فجراً.

مع اشراقة الشمس الأولى كنت أمام سفارة جنوب افريقيا، انتظر افتتاح ابوابها، وبفضل جهود استثنائية وتواصل مشكور من فريق عمل السفارة الفلسطينية في الجنوب حصلت على تأشيرة الدخول الى جمهورية جنوب افريقيا بلصق منشور أزرق على صفحة من جواز سفري يسمح لي بزيارة الجمهورية لمدة 30 يوماً.

ولان سوء الطالع لصيق ظلم الواقع، تعذر الحصول على تذكرة طيران مباشر الى الجمهورية الجنوب افريقية، فاضطررت لحجز تذكرة مع محطة تحويل (ترانزيت)  من مصر الى الجدة، ومن جدة الى جوهانسبرغ، ما يعني 16 ساعة أخرى من الانتظار والتعب والسهر، ولأن هؤلاء جميعاً صعبواً عليّ التركيز في قراءة الأدب العميق لماركيز في روايته الخالدة "مئة عام من العزلة"، استبدلت هواية القراءة بالتأمل والتفكير، وسرحت حيناً في ملكوت الخالق وعظمته، التي تبدت خارقة من على أكثر من 38 ألف قدم في السماء حيناً، وفي المقارنات حيناً آخر.

لماذا يتقدم الآخرون، ونتراجع نحن؟ لماذا يتسامح الآخرون ونتقاتل نحن؟ لماذا يستفيد الآخرون من معاناة من سبقوهم، وننقسم نحن ونمهد المعاناة للأجيال القادمة؟ هل هذا هو طريقنا الوحيد؟ أم يمتلك الآخرين طرق أخرى لا نراها؟

طفلتان صغيرتان، ترتديان الزي نفسه مع فارق جلي في عمريهما، كانتا تجلسان على مقربة مني بصحبة أمهما، أصغرهما طالعتني بعينان خضروان رأيت فيهما ابنتي "ميرا".

أحسست بوجع في قلبي وأنا أعدد أسباب تمنعني من اصطحاب طفلتي معي كهاتان الطفلتان مع امهما، وكلها أسباب تتعلق بكوني من غزة.

بعد حوالي سبع ساعات من التحليق فوق القارة الافريقية بتضاريسها الملونة بين الاخضر والبني والرمادي، تحجبها غيوم بيضاء حيناً، وتتبدى وديانها وأنهارهاً حيناً آخر، اشتد الضغط على أذناي حتى أحسست بهما تتمزقان، مع اعلان قائد الطائرة عن بدء مرحلة الهبوط الى مطار جوهانسبرغ.

كان في انتظاري المسؤول الاعلامي في سفارة فلسطين وفي صحبته موظف من وزارة الخارجية الجنوب افريقية لتسهيل خروجي.

وزيادة في حسن الاستقبال، غدقني موظف ختم الجوازات في المطار بمنحي شهراً للاقامة في بلده، فقط لأني فلسطينية، رغم أني لن أبق فعلياً أكثر من اثنى عشر يوماً.

"الحمد لله على السلامة" بادرني مستقبلي، ابن بلادي تامر المصري، الذي أرهقته في الترتيب لزيارتي من أمره عسراً، حتى خشيت أن لا يصاحبني أبداً.

حمدت الله كثيراً على توفيقه لي بالوصول، وأنا القادمة من سجن كبير يسجننا فيه العجم والعرب،  لأكون في بلد عريق، بتسامح شعبه، وتنوع أعراقه، واحترام رموزه..سأتحدث عن كل ذلك- كما رأيت وسمعت ولمست، بكل الاحاسيس والأفكار والمقارنات التي أثاروها في نفسي- اكثر في مقالات لاحقة.