المجتمع ىالمبادر

بقلم: علي بدوان

"نكبة فلسطين تزامنت مع سنوات الاستقلال الأولى لسوريا العربية، فشكل اللاجئون الفلسطينيون الذين كانوا وصلوا البلاد لتوهم عامل بنّاء في الجوانب الاقتصادية والثقافية التربوية التعليمية والسياسية وفي باقي أوجه الحياة في القطر العربي السوري. وبرز منهم أسماء لامعة في صفوف الأنتلجنسيا العربية وفي حياة سوريا على مُختلف الصعد،” ****************************************************************

يُعتبر التجمع الفلسطيني اللاجئ في سوريا مجتمعاً نشيطاً ومبادراً على كل محاور الحياة، كما هو حال التجمعات الفلسطينية اللاجئة في البلدان العربية المُختلفة. ولم يُشكل في أية لحظة عامل إعاقة، أوعالة، إن كان على محيطه أو في مكان اللجوء الجغرافي. فقد ولدت النكبة وآلم اللجوء والشتات في نفوس اللاجئين الفلسطينيين طاقات هائلة أعطت نتائجها بسيادة روحية الإقدام عند الفلسطيني، وسيطرة إرادة التحدي عنده أمام مٌعترك الحياة وصعوباتها القاسية وتحدياتها بعد نكبة ضياع الوطن وخسارة الفلسطيني لكل شيء.

نكبة فلسطين تزامنت مع سنوات الاستقلال الأولى لسوريا العربية، فشكل اللاجئون الفلسطينيون الذين كانوا وصلوا البلاد لتوهم عامل بنّاء في الجوانب الاقتصادية والثقافية التربوية التعليمية والسياسية وفي باقي أوجه الحياة في القطر العربي السوري. وبرز منهم أسماء لامعة في صفوف الأنتلجنسيا العربية وفي حياة سوريا على مُختلف الصعد، وخصوصاً في مخيم اليرموك الذي تحول مع مرور الزمن لسوق تجاري يُعتبر من أكبر الأسواق التجارية في دمشق وحتى على مستوى سوريا، وسوقاً ذي شأن في الدورة الاقتصادية للبلد وفي رفد الميزانية العامة بأموال الضرائب المُجباة.

وبالطبع، فإن للتسهيلات الكبيرة التي قدمت للاجئ الفلسطيني في وطنه الثاني سوريا، قد ساعدت على ذلك، خصوصاً منها المرسوم الرئاسي الرقم (256) لعام 1956 والذي ساوى بين المواطن السوري وشقيقه الفلسطيني بالحقوق والواجبات.

تبلغ القوة البشرية بين الفلسطينيين في سوريا (63,8%) من إجمالي المجموع المقدر مع نهاية العام 2013 والبالغة نحو (532) ألف نسمة وهي تتفاوت بين الذكور والإناث. يستوعب القطاع العام في سوريا أكثر من ثلثي عدد المُشتغلين بأجرٍ. حيث تتألف القوة البشرية من قسمين: فئة من هم خارج قوة العمل لكنهم لا يعملون ولا يرغبون بالعمل كالطلبة والمتقاعدين وربات البيوت والذين يعيشون من إيراد استثماراتهم. والفئة الثانية فتضم فئة قوة العمل ذوي النشاط الاقتصادي.

مقابل ذلك بلغ معدل النشاط الاقتصادي الخام للاجئين في سوريا نحو (28.9%). والغالبية تعمل في القطاع الحكومي السوري وبشكل رئيسي في الخدمات العامة التي تتضمن قطاع التعليم والصحة والأعمال الوظيفية والمحاسبة وغيرها. ووفق البحوث الميدانية التي كان قد أجراها المكتب المركزي للإحصاء الفلسطيني فإن هناك نحو (74%) من إجمالي العاملين الفلسطينيين في سوريا يعملون بشكل دائم في حين لا تتعدى نسبة المشتغلين بأعمال موسمية أو متقطعة (26%).

ويحظى قطاع التربية والتعليم على عدد كبير من العاملين الفلسطينيين الذين ساهموا منذ لحظات قدومهم الأولى لسوريا في بناء هذا القطاع وتطويره، خصوصا بالنسبة لتدريس اللغة الإنجليزية والمواد العلمية، حيث تُعتبر سوريا الدولة الوحيدة التي خرجت من تحت

عباءة المستعمر الفرنسي ولم تتخذ من لغته اللغة الثانية في التربية والتعليم، بل اتخذت من اللغة الإنجليزية كلغة ثانية للتعليم في المدارس، والفضل في ذلك يعود لوجود مُدرسي اللغة الإنجليزية من لاجئي فلسطين الذين ساهموا في هذا الميدان.

ومن المعروف في تلك السنوات الأولى من تاريخ اللجوء الفلسطيني لسوريا أن تعيين المعلمين الفلسطينيين في سلك التربية والتعليم كان سهلاً وسريعاً، حتى لو لم يَكُن يملك من أوراق ثبوتية، فكانت شهادة معارفه بأن حاصل على الشهادة الابتدائية (السرتفيكا) أو الإعدادية في فلسطين بمثابة امتحان قبوله في هذا السلك من العمل.

وبشكلٍ عام لم تخل قرية أو بلدة سوريا على امتداد الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي من مُدرس فلسطيني، كذلك الأمر على مستوى الجامعات والتدريس داخل قاعاتها ومدرجاتها وحتى في الإسهام بقيام بعض الكليات وتأسيسها ككلية التربية في جامعة دمشق على سبيل المثال والتي قامت عام 1954 والتي كان على رأسها العديد من ذوي الاختصاصات العالية في هذا المجال ومنهم الدكتور المعروف (فخر الدين القلا) والدكتورة (فاطمة الجيوشي) وغيرهم… ولا ننسى هنا القامات الكُبرى في ميدان التعليم العالي كالدكتور حسام الخطيب، والدكتور محمد توفيق البجيرمي … ومجموعة كبيرة من دكاترة كليتي الطب والهندسة بكافة فروعها، إضافة لكلية العلوم التي كان فيها الدكتور المقدسي محمد زياد القطب من أوائل بانيها ومؤسسيها، ومعه الدكتور أحمد الحاج سعيد، والدكتور خضر الأحمد…

أما بالنسبة للأعمال المهنية، فقد أبدع فلسطينيو مخيم اليرموك وسوريا بشكلٍ عام في جوانب كثيرة منها، وأدخلوا العديد منها لسوريا، وتحملوا متاعب الأعمال الشاقة والمُضنية جداً، وكل أعمال وفنون المهن المعمارية والبناء والأخشاب والنجارة والحدادة والميكانيك، وإصلاح الآلات والآليات الثقيلة التي تعمل على الديزل والخياطة والتطريز وفنونها، وصنعة الدهان، وصولاً للأعمال التي نمت وتطورت كالصيدلة والتمريض وتفرعاتها، وقد ساهمَ المعهد المهني التابع لوكالة الغوث معهد الـ (VTC) ومنذ تأسيسه أواخر خمسينيات القرن الماضي بتخريج الآلاف من الشبان الفلسطينيين بمهنٍ نوعية وجيدة مكنتهم من شق سبل الحياة الكريمة ورفد المجتمع المحلي بتلك المهن التي كان المجتمع يفتقد لها. أما مساهمة المرأة الفلسطينية اللاجئة في سوريا في النشاط الاقتصادي فقد بلغت عام 1998 على سبيل المثال نحو (23,5%)، واستحوذ قطاع الخدمات على (59,5%) منهن، والصناعة التحويلية (26,5%)، وباقي النسبة توزعت على القطاعات الاقتصادية المتبقية، ولوحظ أن (70%) يعملن بصورة دائمة نظراً لأن الغالبية يعملن في القطاع العام.

ويلحظ وجود دخول الأطفال سوق العمل لأسباب شتى، ووفق تحليل بيانات واقع التعليم وعمالة الأطفال الفلسطينيين في سوريا فإن (37,7%) من تلك العمالة من أجل إعالة أنفسهم، ونحو (15%) لإعالة أُسرهم، ونحو (42,9) لمساعدة أُسرهم، وما يقارب (4,4) لأسباب غير مذكورة.

وبالنسبة لمؤشرات التنمية البشرية عند الفلسطينيين في سوريا فقد دلت العديد من المعطيات والإحصائيات المتوفرة التي صدرت خلال السنوات الأخيرة، بأن التنمية البشرية متوسطة لديهم وفق المقاييس الدولية لمنظمات الأمم المتحدة. شأنهم في ذلك شأن متوسط دخل الفرد للمواطن السوري بشكلٍ عام.

تلك وقائع بسيطة من حياة الشعب الفلسطيني في مخيم اليرموك وعموم مواقع الشتات في سوريا، سيرة مضنية لشعبٍ مُثقل بالآلام، وجراحه ما زالت غضة وطرية ومعفرة بالتراب، وقد باتت أكثر وأعمق آلاماً مع نكباته الأخيرة، ومنها نكبة اليرموك.

 

بقلم علي بدوان

صحيفة الوطن العمانية

الخميس 24/4/2014