رجل من زمن الثورة
وصلت العائلة إلى رفح في بداية عام 1949 بعد عملية تشريد غير عادية، كانت أمي حاملاً ، ولدت أخي الصغير في شبه العراء، تحت ركبة صبره بجوار سكة الحديد/خان يونس، أذكر الخيمة التي عشت فيها، ذات العامود الواحد، هذه الخيمة مرسومة في ذهني، وهي تلعب دوراً في أحاسيسي وفي تحركي حتى الآن، لقد كبرت معي معاناة الخيمة، أخذت أفكر كيف يمكن وضع حد لمعاناة الإنسان الفلسطيني والخيمة، انتبهت إلى أن المخيمات تحمل أسماء القرى التي غادرناها، هذا مخيم بشيت، مخيم يبنا، مخيم المغار، مخيم عاقر ..الخ، وكأن قرانا نزحت معنا أيضا، هكذا ظل إسم القرية موجوداً، ذلك يعني أن الوعي الوطني مقيم في العقل الباطن، أهل الأندلس حملوا مفاتيح البيوت، أما نحن فقد حملنا أسماء القرى، ولعل ذلك أكثر ما يخيف ويصيب الصهيونية بالذعر، يعني أن شعبنا غادر الأرض كواقع، ولكنه بقي يعيش القرية، وفلسطين كمعنى هذا ما استوقفني بعد عملية دلال المغربي، وقلت: كم أن دلال المغربي عظيمة، فبن غوريون الذي لا يفهم من لغات التاريخ ولغة العصر إلا منطق الفاشية وقانون الغاب القوة الداروينية، فإنه قد حلّ القضية الفلسطينية بجملة من أربع كلمات حسب قوانين العنصرية إذ قال: الكبير يموت والصغير ينسى، لكن دلال المغربي التي ولدت خارج فلسطين، أتت، وكانت قد عاشت فلسطين بالمعنى ولم تعشها في الواقع، عاشتها بالحلم ولم تعشها بالجغرافيا والممارسة اليومية، أتت لتصفع بن غوريون، ولتؤكد أن فلسطين التي تعيشها بالمعنى هي فلسطين التي يجب أن نعيشها غداً بالواقع؛ أتت دلال المناضلة تقود دورية قتالية في عمق فلسطين ولتهز الكيان الصهيوني من أعماقه كما لم يهز إلا قليلاً.
في رفح وكنت ما أزال طفلاً امتلكت أول كتاب في حياتي وهو كتاب « حقائق عن قضية فلسطين «، وعلقت على جدار البيت صورة لعبد القادر الحسيني، وهو متمنطق بالسلاح، ولأول مرة في حياتي أحسست أنني أمتلك شيئاً عظيماً، في تلك المرحلة كان الشباب الكبار، يدخلون خفية إلى الأرض المحتلة، وكانوا يسمون بالمتسللين، كان هؤلاء يفتنونني، عرفت فيما بعد واحداً منهم ويدعى محيسن، عينته الحكومة حارساً لكراج الحاكم كشرطي لتكتفي شره، كان عمله أن يحمل رشاشاً ويقف، هذا الرجل كان يستوقفني دائماً كلما مررت عنه، كنت أرى فيه أسطورة، بدوي أسمر ومسلح، ولا أحد مثله في رفح، هكذا انجذبت إلى رشاش محيسن، كنت أتمنى أن ألمس رشاشه يوماً، لكن كيف أستطيع أن أقترب من الأسطورة!.جاء يوم، وكان الوقت عصراً، مررت عليه وقلت له: مساء الخير، رد علي وقال: تفضل، تعال؛ أجفلت لكني تقدمت، قال لي: ماذا تريد؟ قلت: أن ألمس الرشاش هذا؛ ضحك محيسن وربت على ظهري بحنان، وأمسكني الرشاش، ووضعه على كتفي، كان ثقيلاً، وله مقبضان، ثم أمسكته بيدي، وقلت له: من أين هذا؟ قال لي: من الداخل، يعني من فلسطين، وهكذا صار بيننا نوع من الحنان، وصرت كلما أمر عنه أرد عليه السلام.محيسن هذا أثر بي، أكثر من كل أساتذة المدرسة، كذلك المظاهرات التي كنت أشارك بها في القطاع، والتي توطدت معرفتي من خلالها مع الأستاذ محمد يوسف النجار كأحد الرموز النضالية البارزة في تلك الفترة، أذكر أني سألته مرة، لماذا يدك هكذا ( وكانت كما معروف مقطوعة)، وماذا حصل لها؟ ضحك وطبطب على ظهري وقال: حين تكبر تعرف، وحين كبرت التقينا معاً في قطر، لكن لم أسأله عن يده.
المرة الأولى التي رأيت فيها جندياً يهودياً صهيونياً، كانت أثناء العدوان الثلاثي، كنت وأخي الكبير قد إلتجأنا من القصف باتجاه كثبان الرمل على الشاطئ، بعد إنتهاء القصف عدنا إلى البيت وكنا في سيارة، وفجأة حين وصلنا مخيم بربره، أطلت علينا سيارتان للجنود الصهاينة، أمرونا بالوقوف وقفنا، أنزلونا من السيارة، سيطر على ذهني أن أخي سيقتل، كنت خائفاً عليه، وفتشونا بسرعة، بعد زوال الصدمة الأولى لم أعد أشعر بالموت، نظرت إلى السلاح في أيديهم رأيتهم شباباً، مثلي أو أكبر بقليل، أنا أعزل وهم مسلحون، يد أحدهم كانت مجروحة ومعصوبة، والإصابة حديثة، وأثر الدم واضح عليها، لم يطلقوا على أحد، أخذوا السيارة وصرخوا فينا: أذهبوا بسرعة إلى بيوتكم ولم يعيدوا السيارة إلى أصحابها.
ركض الجميع، وركضنا عائدين إلى البيت، كان علينا أن نقطع شارعاً أمام المركز حيث يتجمع فيه الجنود، أوقفت أخي وقلت: سأحاول فإذا عبرت أشير لك، وإذا لم أعبر وقتلوني إرجع أنت؛ وافق أخي وعبرت، لم أر أحداً، ووصلنا البيت.
بعد أيام قليلة وفي مكان النقطة التي عبرت منها أنا وأخي، مر شاب فلسطيني في مقتبل العمر، فاستوقفه جندي صهيوني، توقف وكان الشاب يرفع يديه، سأله أين ذاهب، فرد الشاب بالعبرية إلى البيت، وإذا بالجندي يطلق عليه النار، ويقتله، ظل الشاب ملقى على الأرض لثلاثة أيام، كانوا فرضوا علينا منع التجول، وكنا نشاهد جثته من بيتنا، حين إنفك منع التجول، ذهبنا إلى الجثة، سبقت عمي إليها، وسألته: لماذا قتلوا الشاب؟ فرد علي بحنق: هؤلاء لم يقتلوه، الذي قتله هو الذي انسحب، وتركه بلا بندقية، لم يُعرف أهل لهذا الشاب، سألنا كثيراً بلا فائدة، أحضرنا كاره وحملناه، ثم دفناه بسرعة، لا، فك التجول لمدة ساعة فقط، وبيتنا بجوار مركز الحاكم العسكري .
بعد مدة طويلة، جاء أهله وسألوا، وقلت لهم أنا رأيته وعرفنا منهم أنه كان بدوياً من عرب السبع، كان يعيش في يافا قبل عام ,1948 وكان واعياً، ويعرف بعض الكلمات بالعبرية، أخذتهم إلى القبر، وقلت: هنا دفناه، وحكيت لهم كيف قتل.
كان ليدي، كبير، سألني من أين أنا وماذا يعمل أبي، أخبرته أن أبي شهيد، وإذا به يقول بجدية كاملة: عاهدني أن تثأر لهما. مددت يدي، وعاهدت ذلك الرجل الذي لا أعرف أسمه حتى الآن، وما زلت على ذلك العهد وتوجه في الصباح شمالاً وتوجهت غرباً إلى بيتنا، لأن دقائق منع التجول بدأت بالنفاذ.
قال عمي ذات ليلة: حين يولد حزب فلسطيني ولا تنتمي إليه تكون جباناً، أثَّر ذلك فيَ، وأخذت انتظر الولادة. إنتهى العدوان الثلاثي، لكن صور القتل ظلت مرسومة في ذهني، صورة رشاش البرن الانجليزي الموضوع على مثلث طرق، وهو يحصد الناس ببساطة بالغة، والناس تسقط وتستشهد، ثم يأتي آخرون ويحملون الجثث إرهاب رسمي فمنهج إرهاب العنف الدموي « إرهاب الدولة « عرفت معنى القتل بدم بارد، ودون أن يرتعش للقاتل جفناً وكيف يتم قتل الأبرياء وبحماس ومزايدة ومنافسة بين القتلة !، في ذلك الوقت عرفت أن الصهيونية هي سبب كل بلاء في حياتنا، من حزن وقتل وألم، ولا ينفع معها غير النار، لقد قتلوا كثيرين أعرفهم، قتلوا ذلك البدوي الذي رأيته، وقتلوا أصحابي وهم يرفعون أيديهم متجهين نحو المدرسة الأميرية في رفح، ويمكن القول إن العدوان الثلاثي خلف لدى الكثيرين مثلي إرادة التوجه نحو العنف الثوري المسلح ولا شيء غير العنف الثوري المسلح كأسلوب مواجهة مع هذه الحركة، الحركة الصهيونية.
.الفصل الثاني / إطلاق المشروع النضالي للحركة الأسيرة.
« إن الانتصار في معارك الحركة الاعقتالية ليس انتصاراً عضلياً، إنه انتصار قوة الإرادة فقط أمام إرادة القوة، ولعل أقسى أنواع الانتصارات يجيء حين تكون أعزلاً من كل سلاح، إلا من هذه الإرادة، فلا بد أن تنتصر بها، وعليك أن تنتصر بلحمك العاري، ولم يكن ذلك بالأمر البسيط علينا».
لعل هذا القول الساخر من قوة الحديد، وبطشها الضاري، يرشدنا الى بداية الطريق الامثل للدخول الى عالم عبد العزيز شاهين، والى الامساك بطرف خيط أخر لسبر غور أعماقه، كقائدا ومؤسسا لحركة المقاومة الاعتقالية داخل السجون الإسرائيلية، لنكتشف لاحقا بان تمكن أبو على شاهين من الإبداع في بناء وتأسيس حركة المقاومة الاعتقالية كان محصلة لحالة عشق مختلفة ونادرة بين الفكرة ومصممها ، فتعامل أبو على مع فكرة بعث الحركة الاعتقالية المقاومة ، كمولود أنجب على راحتيه ، وغراس خضر أورقت بين يديه أسقاها من فيض فكره المتدفق ، المعزز بعشرات الأفكار والمواقف المساندة والداعمة له من مئات الاسرى والمناضلين داخل قلاع الأسر ، الى أن اصلب عود تلك الغراس واستوت على سوقها ، فكانت غلالها طيبة من نبع ومنبت طيبان أورث الحركة الأسيرة انتصارات تلو أخرى مكللة بالدم والعرق.
على هذا النحو كانت علاقة أبو علي شاهين بالحركة الأسيره، ولعل أبو علي قدم لنا بهذا البوح الإنساني الجياش تفسيراً ما لحالة التدفق الهائل في عطائه التي عاش تفاصيلها منذ اللحظة الأولى لدخوله الأسر إلى اللحظة الأخيرة لوجوده فيه، طوال الخمسة عشر عاماً التي أمضاها في سجون الاحتلال، لقد كان أبو على شاهين وفقاً لوصف معاصريه منÅ قاده الحركة الأسيرة، قائداً بمواصفات اسطوريه بكل ما في هذا الوصف من دلالات إنسانية ووطنية وتاريخية.
لقد توزع دور هذا الرجل من الاهتمام بالأسرى حديثي الاعتقال وشد أزرهم ورفع معنوياتهم وتثقيفهم إلى غسل ملابسهم بيديه، إلى الانعزال في زاوية الزنزانة ليكتب أجمل وأعمق ما عرفته المقاومة العالمية داخل السجون من أدبيات وإبداعات فكرية ترقى إلى مصافي الرؤى والأفكار والنظريات النضالية العابرة للزمن والمقاومة للفناء والصالحة لكل عصر وجد فيه الظالم والمظلوم، الاستعمار والثورة، الاستبداد والانعتاق .
لقد أسس أبو على شاهين بخبرته العملية التجريبية وإبداعه الفكري الخلاق، طرقاً ونظريات ووسائل وتكتيكات المواجهة خلف القضبان، وأكد للأسرى الفلسطينيون بأن لأجسادهم العارية قوة تضاهي قوة الرصاص في حسم المعارك والانتصار بها، منطلقاً في ذلك من إدراكه النضالي المبكر للحقيقة القائلة « إن الحركة الصهيونية حركة قوية جداً يجب علينا أن نعترف بذلك، ولا يمكن أن ننتصر عليها ما لم نكن أقوى منها، فالضعيف لا ينتصر وقوة الحركة الصهيونية متمثلة في محصلة قوتها المادية، أما قوتنا فينبغي أن تكون كامنة في قوة إنساننا، هذا هو الفرق بيننننا وبينهم، العدو قوته مادية، وأنت قوتك معنوية، يعني أنك تتفوق عليه معنوياً، لكن كيف يمكن أن تشحن هذه القوة المعنوية لتصبح طاقة قادرة ومؤثرة في قوته المادية، كيف تعزل العدو عن قوته المادية، وتفقده هذه السيطرة التي يتمتع بها «.
في مقدمة تلك الوسائل المعنوية سلاح الإضراب عن الطعام، حيث قاد أبو على شاهين الأسرى الفلسطينيين في أول إضراب عن الطعام عرفته السجون الإسرائيلية في العام 1970م، وفي سجن عسقلان أيضا شارك في قيادة أطول إضراب عن الطعام 19761211 والذي استمر لمدة 45 يوماً، فعاقبته إدارة السجون بنقله إلى العديد من السجون الأخرى وعزله في « زنازين الحبس الانفرادي « لفترات طويلة، واستقر مع قيادة الإضراب في سجن شطا، ثم نقل إلى سجن نفحة الصحراوي الرهيب عند افتتاحه في منتصف 1980م، وكان الأسير الفلسطيني الأول الذي تطأ قدماه أرض ذاك السجن، حيث قام ثانية بقيادة إضراب بطولي عن الطعام دام ثلاثة وثلاثين يوماً، استشهد خلاله الأسيران راسم حلاوة وعلي الجعفري، ولاحقاً استشهد الأسير إسحاق المرغي، ونُقل من السجن قبل الإعلان عن الإضراب بيوم، ومع ذلك بقي قائد الإضراب الفعلي والمعنوي.
وقد اتسع نطاق ذاك الإضراب ليشمل كافة المعتقلات الصهيونية، ومدن الضفة والقطاع، مع مشاركة فعّالة ولأول مرة للقيادة الفلسطينية في بيروت، وشهدت قاعات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن نقاشات صاخبة ومواجهات دبلوماسية حامية قادتها العربية السعودية حينذاك، وكان مطلب الأسرى في هذا الإضراب تحسين شروط وظروف الاعتقال رافعين شعار « نعم لألالم للجوع ،لا وألف لا لألالم الذل والركوع «، ونقل أبو علي من معتقل نفحة إلى معتقل «شطة» حيث تعرض هناك لاعتداءات فظيعة من السجانين اليهود، إقتضت معالجته طبياً .
وفي التقرير الخاص الذي أعده مدير مصلحة السجون الإسرائيلية في العام 1982م، والمُقدم للمستويين الأمني والسياسي الإسرائيليين، وذلك قبيل الإفراج عن أبو على شاهين بفترة وجيزة، وجدت الفقرة التالية: [ في فترة وجوده في السجن، تمكن عبد العزيز شاهين من أن يبلور لنفسه مكاناً ونفوذاً كبيرين، كأحد قادة « فتح» و» الفدائيين « عامة؛ وعلى امتداد فترة سجنه وبالذات في السنوات الست الأخيرة، برز نفوذ وتأثير أبو علي شاهين على السجناء الفلسطينيين، فإيعازاته وتوجيهاته تحتل مكانة هامة في حياة السجناء، الذين يستشيرونه ويقدمون له التقارير عن كل ما يجري، ويكنون له احتراماً كبيراً .
وفقاً لهذا المنظور يتضمن هذا الجزء العمل النضالي والتنظيمي لأبو علي شاهين خلال مرحلة الاعتقال؛ فيتضمن بداية النشاط التنظيمي، مساهمته في تطوير العمل التنظيمي في السجون، المحاكمة، الإضراب عن الطعام كوسيلة للمواجهة داخل الأسر، الأمراض تغزو المعتقل رحلته في سجن عسقلان.