بعد التجربة القاسية التي عاشها الفلسطينيون مع مصر في الأشهر القليلة الماضية، إثر الأحداث الداخلية التي شهدتها، والتي أدت إلى تدهورٍ كبير في العلاقة بين الشعبين، وانعكست سلباً على حياة الفلسطينيين السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتسببت في إحداث قطيعة غريبة بين الشعبين العربيين المسلمين، الذين ارتبطا لعقودٍ طويلة من الزمن معاً.
امتزجت دماؤهما فيها على أرض فلسطين، وفي صحراء سيناء، دفاعاً عن فلسطين وعروبتها، في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي الغاصب، وكانت مصر خلالها للفلسطينيين جميعاً، المرجعية الراعية، والشقيقة الحاضنة، والقوة الرادعة، والموئل الكبير، والملجأ الحصين، والسور العالي الذي لا نضام خلفه، ولا نظلم بسببه، وكانت رغم الاختلاف أحياناً، والحصار حيناً، معبراً لغذائنا ودوائنا، وطريقاً لسلاحنا وذخيرتنا، ومرجعاً لحل مشاكلنا وتسوية خلافاتنا.
اليوم وبعد أن اختار المصريون رئيسهم، وانتخبوا من يريدون لقيادتهم، لا نملك إلا أن نسلم بنتيجة تصويتهم، وبقرار شعبهم، فلا نتدخل في شأنهم، ولا نعترض على تصويتهم، ولا نشكك في نزاهة انتخاباتهم، ولا نساند فريقاً منهم، ولا نعارض آخر، ولا ندافع عن مظلومٍ ونهاجم معتدياً.
فهذا شأنٌ مصريٌ صرف، ننأى بأنفسنا عنه، ولا نقبل التدخل فيه، ولا المساهمة في أحداثه، أو المشاركة في فعالياته، ولا نسمح لأحدٍ أن يزج بنا في أتون المعركة الانتخابية المصرية، ولا أن يجعل منا طرفاً في تفاصيلها، فنحن فلسطينيون، شأننا فلسطيني، وقضيتنا المركزية والوحيدة هي مع عدونا الإسرائيلي، الذي يحتل أرضنا، ويغتصب حقوقنا، ومعركتنا معه مفتوحة، وهي مستمرة وباقية، نستخدم خلالها كل أسلحتنا، ونخوض معاركها بكل قوانا، حتى نستعيد حقوقنا، ونسترجع أرضنا، وهو حق لنا، وأمرٌ يتعلق بمصيرنا.
الفلسطينيون هم أصحاب القاعدة الذهبية، والسياسة الحكيمة الراشدة، التي تقضي بعدم التدخل في أي شأنٍ عربي، فنحن لسنا طرفاً في أي مسألة، ولسنا عوناً لأي فريق، ولا جنداً في أي معركة، ولا نقبل أن نكون بديلاً عن أحد، ولا أن نقرر نيابةً عن أي شعب، وسياستنا التي يجب أن تسود وتكون، والتي يجب أن نلتزم بها، ويعرفها عنا الآخرون، هي الحياد التام، والبعد المطلق عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول، العربية والإسلامية وغيرها، فلا خير نرجوه من تدخلنا، ولا فائدة نبتغيها من إقحام أنفسنا في شؤون غيرنا، بل نحن ندخر جهودنا لمعركتنا، ونوفر طاقاتنا لصالح شعبنا، ونعرف يقيناً أن مصلحتنا في أرضنا، ومع أهلنا، وفي التمسك بحقوقنا، والثبات على مواقفنا، وفي مواجهة عدونا، ومواصلة المعركة معه، إذ هي سبيلنا، وهي طريقنا لكسب العرب، وتأييد المسلمين، ونيل نصرتهم، والاستفادة من دعمهم وقدراتهم.
ونحن إذ ننأى بأنفسنا عن التدخل قناعةً، ونبتعد عن الشؤون الداخلية لمصر فهماً وعقلاً، فإننا نأمل من مصر التي اختارت قيادتها بنفسها، وانتخبت رئيسها بطريقتها، أن توقف حملاتها ضد الفلسطينيين، وأن تكسر أقلام كتابها الذين يتهمونهم، ويحرضون عليهم، وأن تسكت أفواه الإعلاميين الذين وجدوا في الإساءة إلى الفلسطينيين منفعة، وفي إهانتهم فائدة، وهم يعلمون يقيناً أن التحقيقات التي أجرتها المخابرات الحربية المصرية، وهي الأكثر صدقاً ونزاهةً، قد أثبتت قطعاً براءة الفلسطينيين من كثيرٍ مما نسب إليهم، وأن كثيراً مما اتهموا به كان كيداً ودساً، وتحريضاً وكذباً، بلا سندٍ من الحقيقة، ولا قرينة من الواقع.
قد تكون لبعضنا رغباتٌ وأمنيات، وميولٌ وارتباطات، فنحن لا ننكر أننا مزيجٌ من القوميين والإسلاميين، وخليطٌ من اليسار واليمين، شأننا شأن أي شعبٍ آخر، نشعر بأننا ننتمي إلى أمةٍ واحدة، وتربطنا ببعضنا وشائج مشتركة، وكلٌ منا يتطلع لفوز من يحب، وكسب من يؤيد، فهي مشاعرٌ عربية مشتركة، لا نقوى على تفتيتها أو شطبها، ولا نستطيع التخلي عنها أو تركها، ونكذب على أنفسنا إن ادعينا عدم وجودها، أو نفينا غيابها من نفوسنا.
حالنا في السياسة كأنه مباراة كرة قدمٍ، لها مؤيدون ومشجعون لكلا الفريقين، ولكن أحداً لا يستطيع من المؤيدين أو المعارضين أن ينزل إلى أرض الملعب، ولا أن يكون لاعباً مهاجماً، أو مدافعاً في اليمين أو اليسار، ولا يستطيع أحدٌ أن يكون حارساً للمرمى، بديلاً عن حارس مرمى فريقه الذي يحب ويؤيد، ولا يقوَ أحدٌ مهما بلغ أن يغير النتيجة، أو أن يشطب ويعدل في الأهداف، فكما لا نملك إزاء مبارة كرة القدم القدرة على النزول إلى أرض الملعب، ولا المشاركة في أشواطها، ونكتفي بالتأييد والتشجيع بروحٍ رياضية من بعيدٍ، دون أن نعكر صفو اللاعبين، فإننا كذلك في الشؤون الداخلية العربية، نكتفي بالفرجة، ونقبل بالنتيجة، ولا نعترض على السياسة، ولا نشكو على الحكم، ولا نحاكم الجمهور.
نحن الفلسطينيين أكثر الشعوب العربية حاجةً إلى مصر، بشعبها العريق، وتاريخها المجيد، وتضحياتها العظيمة، ودورها الرائد، وقدراتها الكبيرة، ونحن أدرى الشعوب بقدراتها وإمكانياتها، وأعرفهم بصدقها وحرصها، وأكثرهم تقديراً لعطاءاتها وتضحياتها، لذا فإننا نعلق عليها آمالنا العريضة، وأمانينا الكثيرة، ولا نرى أنفسنا بدونها، أو بعيداً عنها، فمصيرنا بها يرتبط، ومعها معقود، فلا نستطيع الإبتعاد عنها، أو الاستغناء عن قدراتها، كما لا تقبل مصر أن تتخلى عنا، ولا أن تتركنا وحيدين في مواجهة عدونا، دون أن توظف قدراتها الكبيرة في خدمة ونصرة القضية الفلسطينية، فهذا دورها وواجبها الذي يمليه عليها موقعها ومكانتها في قلب الأمة العربية.
مصر حرةٌ في قرارها، وسيدةٌ في انتخاباتها، وهي المسؤولة عن مصيرها، وصاحبة الحق الحصري في تقدير مصالحها، وبيان مستقبلها، نتمنى لها السلامة، وندعو الله لها بسرعة جواز المرحلة، وأن تتمكن من حل مشاكلها، واستعادة هيبتها، وفرض سلطتها، وأن تنجح في رأب صدعها، وجمع كلمتها، ومداواة جرحها، وبلسمة جرحاها، واستعادة أبنائها، وتوحيد صفهم، وجمع كلمتهم، بمودةٍ ورحمةٍ، وحنوٍ وشفقة، فإنهم جميعاً أبناء مصر، وجزءٌ عزيزٌ من شعبها الخالد.