مصالحة وطنية أم اتحاد كونفدرالي ؟!

بقلم: عبد الحليم أبوحجاج

طال صبر الغُزيين ، وطال انتظارهم ، فكلهم يُمني النفس بمصالحة حقيقية بين جناحي السلطة الفلسطينية : (الضفة الغربية وغزة ) ، لعل يوماً يأتي حاملا إلينا البشرى السارة . وأخيراً ، وبعد سبع سنوات عجاف جاء المخاض ، فولدت ناقة المصالحة فأراً معاقاً في جسده ، معتوهاً في عقله ... اسمه : حكومة التوافق الوطني التي روَّج لها الغوغائيون ، وأذاعوا في الناس أنها حكومة مهنية تكنوقراطية ، وأن وزراءها من المستقلين ... وهذا ليس صحيحاً ، ذلك أن النية لم تكن خالصة للوطن ولا للمواطنين ، ولم يُسخِّر لها بعض المتنفذين هنا أو هناك أسباب دوام النجاح ، بل ودَّ هؤلاء وأولئك لو أفشلوا هذا الاتفاق وأسقطوا الحكومة ، وليس على الشياطين ببعيد . وكل يغني على ليلاه .

ونحن لا ننكر أنَّ هنا أو هناك رجالا صدقوا ما عاهدوا عليه الله والوطن ... ويودُّون إتمام المصالحة وتخطي كل العقبات وتذليل كل الصعاب لإحراز النصر على النفس الأمارة بالسوء والظن ودوام الخصام ... والآمرة بالتحوصل في شرنقة الوزارة برغـم إدراكهـم بكره الناس لهـم . أما قولهم أن الوزراء مستقلون فهو افتراء مفضوح . فالمراقب المتتبع للأحداث يرى ويسمع أن السعي الخبيث والتسابق الخسيس من بعض الأشخاص للوصول إلى كرسي الوزارة ، وحمل الحقيبة الوزارية التي تحفها لعنات الناس ، دفعهم إلى تغيير هوياتهم السياسية ، وتبديل وجوههم المنافقة بوجوه أشد نفاقاً ، فيعلن لاعبوا الشطرنج عنهم أنهم مستقلون ، وما هم بمستقلين بالمعنى الاصطلاحي الذي يضعهم خارج سياجات الأحزاب السياسية المتهالكة على السلطة والتسلط على رقاب الناس ، وهم ليسوا خارج دائرة التنظيمات المتصارعة فيما بينها على العرش . إنهم مستقلون بالاسم فقط ، أما واقعهم فيقول إنهم حزبيون ، وهم مكشوفون لشعبهم الذي يحسبونه ساذجا ، أهبل ، تنطلي عليه مثل هذه الأكاذيب والألاعيب ... كلا ، يا لاعبي الشطرنج ! فإنكم لا تخدعون إلا أنفسكم .

إن هذه الحكومة - استغفر الله – ، إن هذه الفرقة التي تمخضت عنها مفاوضات التصالح الفلسطيني ، والتي أقسمت يمينها أمام المايسترو الذي شاهدناه – عبر شاشة التلفاز - يستعرض أعضاءها (اللا مهنيين ) قبل أن يعزفوا مقطوعتهم الموسيقية : أكلك منين يابطة !!!! . هي حكومة تلفيق وترقيع لواقع مهلهل مهترئ لا ينفع معه إلا التغيير والتجديد الكامل هنا وهناك . والناظر لمجريات الأحداث يعلم أن الرئيس محمود عباس قد ساهم في تعطيل نجاح السيناريو الوطني بفتق النسيج الفلسطيني وتفتيته ، أولا : بتهربه من الاضطلاع بمسئولياته ، وبهروبه وهروب جنده وأزلامه من غزة وترْكِها سجينة ، يتداول عليها السجانون وهي تئن وتتألم من ألوان العذاب القهري صباح مساء . ثانيا : بفتح نار العداء على المقاومة ورجالها ، وإطلاق مدافعه الإعلامية الرشاشة صوب بعض الشخصيات الفتحاوية التي يراها قد أجرمت في حقه حين خرجت عليه وقالت : لا . فظهر على المسرح الفلسطيني انشقاق جديد في حركة فتح الرائدة ، وتحزَّب بعض الفتحاويين لهذا الجانب الإصلاحي وبعضهم الآخر لذاك ، فأوقع السيد الرئيس العداوة والبغضاء بينهم ، وانقسموا على أنفسهم متباغضين ، واشتدت سطوة العداء العباسي لدحلان ورفاقه ومؤيديه ، ففصل كبارهم من حركة فتح ، وحورب صغارهم بقطع رواتبهم ليموتوا هم وأسرهم جوعا وكمدا. وكان التراشق بالاتهامات المتبادله عبر فضائيات متنوعة ، قد سوَّد الوجه الفلسطيني ولطَّخ الراية الفلسطينية بفضائح الخيانة والسرقات الكبيرة ، وانزاحت الستارة عن المثل القائل (حاميها ... حراميها ! ) ، والشعب الفلسطيني يقف مذعورا مما يرى ويسمع ، ولسان حاله يقول : أهؤلاء قادتنا وقدوتنا؟! فهل يستحق هؤلاء وأولئك ثقتنا بعد اليوم ؟! . الحق أقول : لقد انتهى عهد القيادات وعهد الزعامات بعد الشهيد الراحل ياسر عرفات . ثالثا : معاندة الرئيس عباس و(مجاكرته ) لحماس ولحركة فتح نفسها وللشعب الفلسطيني بإصراره على إبقائه فلانا أو علانا وزيرا في حكومة التوافق الملفقة أو في تشكيلات وزارية سابقة ، متحديا رأي المعارضة الذين اعترضوا عليهم لسوء ماضيهم أو لسوء عملهم ، ومتحديا مشاعر الكثرة المطلقة من الناس الذين أسقطوهم في الانتخابات بالأمس ، ويرفضونهم اليوم ، لأنهم أثبتوا فشلهم ، وأثبتوا أن أمانتهم سكر خفيف ، ويعرفون من أين تؤكل الكتف ، فأكلوا الأكتاف والأوراك حتى التهموا الأقدام ، والرئيس عباس يرى ويعلم ، ولم يسأل أحدهم سؤال أمير المؤمنين عمر لولاته عندما يظهر على أحدهم الثراء : من أين لك هذا ؟ إلا أن يكون الرئيس نفسه يستسقي البقرة الحلوب فيرتوي من لبنها عندما يحلبون ، وإلا فلماذا السكوت عن أولئك التجار المساهمين في شركة التحرير الفلسطينية ، وما السبب في إصراره على التمسك ببعضهم وفرضهم على سائر الشعب الذي يرفضهم ؛ بتعيينهم في مناصب ليسوا أهلا لها ، مع وجود الأجدر والأكفأ والأعلم . وكأن الرئيس مسحور بهم ، لا يرى إلا هم لأن على رأسهم ريشة ، أو أن الرئيس واقع تحت سيطرة الجن الأزرق ، يعني : ( معمول له عمل ) . وإذا كان هؤلاء الوزراء المختلَف عليهم والمدللون عند السيد الرئيس وطنيين جدا ويهمهم المصلحة العامة ، فلماذا لم يخرج أحد منهم عن صمته ويحسم الخلاف ويعلن عن استقالته ، مضحيا بمنصبه إسهاما منه في تنقية الأجواء ، واستجابة لرغبات الناس الكارهين له ؛ إنقاذا لنفسه من العيش الطويل في مزبلة التاريخ حيث تنهال عليه لعنات الأجيال المتعاقبة ، وحرصا منه على إنجاح المصالحة وإنقاذ تشكيل حكومة التوافق ، بدلا من الإيقاع بها في هذا المستنقع العفن ، فغرقت فيه وأغرقتنا معها ، وقتلت طموحاتنا ونحرت الأمل النابت فينا ؟!.

ثم إن الترقيع في رداء هذه الحكومة قد بدا جليا للعيان في حلبة الصراع على النفوذ بين فتح وحماس ، وأعني به : صراع المفاوضات على المحاصصة الوزارية بين القطبين الرئيسيين ، ثم ما كان بينهما من خلاف على وزارة الداخلية والأمن الوطني ، الذي كاد أن يعصف بالمصالحة وينسفها نسفا ، وتم أجمل ترقيع بإسناد وزارة الداخلية للسيد الدكتور الأكاديمي رامي الحمد الله ، الذي ارتضينا به رئيسا للوزراء ، ولكننا لا نرتضي له أن يحمل حقيبة وزارية ، نراها ثقيلة عليه . ذلك لأننا نخشى عليه من فشل جديد يضاف إلى الأفشال السابقة ، ويضطر الدكتور الحمد الله إلى الاستقالة وترك الوزارة ، لأن وزارة الداخلية يشقيها : الأمن العام والأمن الوطني بحاجة إلى رجل له صلة وتجربة وخبرة في مجال الشرطة وفي مجال العسكرية ، والدكتور الحمد الله رجل بعيد كل البعد عن خشونة هذين المجالين بحكم دراسته التخصصية في العلوم اللغوية التطبيقية ، وبحكم حركته الناعمة في دائرة الحرم الجامعي طيلة سنوات عمله . ويذكرنا هذا الموقف بالسيد هاني القواسمي ، رجل المحاسبة والإدارة الذي فشل في تسيير وزارة الداخلية ، وفشل في ضبط الأمن العام الذي من المفترض أن يضطلع بهذا التكليف ضابط شرطة أو رجل أمن ذو قدرات عسكرية عالية ، ما أدى به إلى اعترافه بفشله ، إذ وُضع في مكان ليس له فيه موطئ قدم ، وقدم استقالته مبكرا وانتهى الأمر .

الشعب الفلسطيني في قطاع غزة يرقب الأيام لعل وزيرا ممن تسلم حقيبته مؤخرا وأقسم يمين الولاء للوطن أن يَبَر بقسمه ويأتي إلى غزة ، ليباشر عمله ويمارس صلاحياته ، لكن أحدا لم يأتِ ، وكأ ن ما جرى ليس مصالحة وطنية وإنما هو اتحاد كونفدرالي بين إمارتين إحداهما في غزة والأخرى في الضفة . وإذا أراد القارئ توصيفا آخر لنظام الحكم المفروض على غزة ، فإن غزة مازالت تخضع لحكومة الانتداب التي انتدبها المندوب السامي العائش في المقاطعة برام الله . ولم يجرؤ أي وزير جديد أن يأتي إلى غزة ... فلتذهب هذه الحكومة الأضحوكة إلى الجحيم بكل أعضائها . ويبدو أن غزة ستبقى – كما كانت – لسنوات سبع أو سبعين عجاف .

الأمور الحياتية في غزة مأساوية ، والناس فيها حيارى ، لايدرون ماذا يفعلون ، نعم ماذا نفعل نحن الفلسطينيين في قطاع غزة . من يرد علينا الجواب ؟ هل نرحل ونهاجر ؟ . لا تقولوا لنا أيها العائشون في أحضان النعيم المقيم : اصبروا ورابطوا . كلا ، لا نريد وعظا من المتثعلبين !. وهل الرحيل خيانة تلحق بصاحبها العار ؟ . فمن يشتري حصتنا من هذا الوطن حتى نغادره ، ونجعله يغادرنا ؟ . متى نهرب من السجن الكبير ( باستيل غزة ) إلى بلاد الله الواسعة ؟ فنسيح فيها مادين أيادينا إلى أصحاب المروءة والشهامة والضمير من غير العرب والمسلمين ، نستجديهم : موطنا آمنا ورغيف خبز حاف . وهل أخطأ الذين سبقونا بالرحيل وهجروا الأوطان ، فوجدوا في بلاد غربتهم العزة والحرية والعيش الكريم ، ووجدوا أنفسهم وتصالحوا مع ذواتهم . ولكن السؤال الأهم هو : متى يفتح معبر رفح حتى يمكن الفرار والانعتاق والانطلاق ؟!!! . يراه الناس بعيدا ، ونراه أبعد . فهل من رجل حكيم يسعى لإقامة السلام الاجتماعي بين الناس في قطاع غزة والضفة الغربية ؟ وهل من رئيس فلسطيني يوظف مئات الملايين من الدولارات الممنوحة للشعب الفلسطيني سنويا لصالح الإنسان الفلسطيني ، فيعمل على خفض نسبة البطالة وتوفير فرص عمل للعمال الذين ضاقت بهم الطرقات ، ولخريجي الجامعات الذين تكدسوا فملأوا الشوارع والأسواق يبيعون الترمس والبقدونس والنعناع . وهل من رئيس أو وزير لاجئ يطالب بحقوق اللاجئين ويجتهد مخلصا في تنشيط وتفعيل دور الوكالة (الأنروا) في ظل الاختناق المعيشي الصعب . ألا يوجد في قياداتنا رجل رشيد نسترشد به ونهتدي به ؟ وتلهج ألسنتنا بذكره بعد موته ، تصاحبه تراحيمنا بدلا من أن تلاحقه اللعنات الغضوب صباح مساء إلى يوم الدين.