حتى اللحظة الراهنة لا نستطيع الوصول الى خلاصات واستنتاجات نهائية بخصوص ما ستؤول إليه مسارات الحرب العدوانية الهمجية المتواصلة التي يشنها الإحتلال على أهلنا وشعبنا في قطاع غزة،ولكن هذه الحرب مختلفة عن كل الحروب والإعتداءات السابقة التي شنها الإحتلال على شعبنا ومقاومتنا في قطاع غزة (2008 – 2009 ) و(2012)،فالعدو لا يتحكم في إيقاعات هذه الحرب ولا التقرير بشأن بدئها وإنهائها ولا فرض شروطها،بعكس ما كانت عليه الأمور في الإعتداءات والحروب السابقة،الإحتلال يشن الحرب ويبادر لها،ويفرض شروط وقفها.
صحيح أن الإحتلال شن عدوانه على قطاع غزة وفي جعبته مجموعة من الأهداف السياسية التي هدف الى تحقيقها،والتي تحمل في مضمونها وجوهرها مشروعاً سياسياً يريد فرضه على الشعب الفلسطيني،فهو شن العدوان لكسر إرادة المقاومة وتصفية كل أذرعها واجنحها العسكرية،وكذلك تدمير ترسانتها من الصواريخ وتقنيات تصنيعها وكل البنى التحتية الخادمة لها من انفاق وورش ومصانع وغيرها،وبما يمهد لفرض حل سياسي على المقاومة والشعب الفلسطيني،وفق شروطه وإملاءاته،وبما يجعله متحكم في مداخل ومخارج غزة،ومراقبة الداخل والخارج منها (أفراد وبضائع)،وبما يبقي اليد الطولى له للتقرير بشأن اهل غزة،بحيث يصبح فتح المعابر ورفع الحصار وإدخال البضائع وتصديرها منوط بسلوك السلطة القائمة فيها،حصلت على حسن سلوك اسرائيلي وامريكي والرباعية الدولية،يتم ادخال البضائع وفتح المعابر للتصدير والإستيراد،وسلوك لا يتوافق مع المعايير الامريكية والاسرائيلية تغلق المعابر وتفرض العقوبات،كما هو جار مع السلطة في الضفة الغربية،حجز اموال الضرائب والحد من حركة السلطة ورجالاتها(مصاردة بطاقات (VIP) وعدم منح العمال تصاريح للعمل في القدس والداخل الفلسطيني- 48 -.
الحرب متواصلة بالمقاومة العسكرية والسياسية،وهي ليست حرباً فلسطينية – اسرائيلية فقط،بل هناك الكثير من المحاور العربية والاقليمية والدولية المتصارعة على أرض القطاع،والتي حسم المعركة فيها يحدد لها مكانتها ودورها في الخرائط والمعادلات والتحالفات العربية والاقليمية والدولية،وهذا المحاور تشتبك عسكريا وسياسيا لكي تفرض شروطها،ولكن الحسم في ذلك لما يجري في الميدان على أرض المعركة اولاً،وكذلك ما يتم إنجازه في المعركة السياسية،ولذلك المقاومة يجب عليها ان توظف ما يتم انجازه عسكريا وفق استراتيجية سياسية تخدم مشروعها ومطالبها في المفاوضات السياسية.
الحرب المتواصلة والمستمرة،كشف عن الكثير من الأمور،فعلى صعيد المقاومة وأسلحتها وقدراتها العسكرية والتقنية واللوجستية والإستخباراتية وبتمايز ادوراها وقدراتها ،عن ان هذا الخيار،ليس عبثياً وبلا جدوى،بل ثبت ان له حيز واسع في وجدان ومكنون وضمير وذاكرة ليس الشعب الفلسطيني فقط،بل والجماهير العربية،هذه الجماهير رغم كل الخسائر الكبيرة في البشر (الشهداء) و(الجرحى) وتدمير كل مقومات الوجود الفلسطيني والحياة منازل،مدارس،مشافي اماكن عبادة ومؤسسات دولية وغيرها إلا ان ذلك لم يمنع أهل غزة من القول كما قال الشهيد ابا علي اياد "نموت واقفين ولن نركع"،وكذلك باتت الجماهير أكثر قناعة بأن منهج وخيار وثقافة المقاومة،هي التي يجب ان تسود،وهي المخرج الوحيد لإستعادة الهيبة والكرامة تمهيداً للحرية والإستقلال،وبأن هذه المقاومة طورت الكثير من قدراتها العسكرية وأساليبها وتكتيكاتها،وبأنها قادرة على أن تدمي الإحتلال وتلحق به الهزيمة،رغم الفارق الكبير في الإمكانيات العسكرية والتكنولوجية والاستخباراتية،فالمقاومة خلقت توازن الردع وليس توازن القوة مع العدو. وهذا عكس نفسه على الجبهة المقابلة،حيث ان العدو،وبما يحكم قيادته من سياسة الغطرسة والعنجهية والإستعلاء،والتقدير العالي للذات كقوة عسكرية مدمرة،جعلته يعتقد بأن المقاومة سترفع الرايات البيضاء وستأتيه راكعة تستجدي التهدئة،ولكن قصر النظر هذا،وفشله الإستخباري،ادخله في سلسلة من التخبطات والإربكات والإتهامات المتبادلة على المستويات السياسية والعسكرية والأمنية،وبات هذا واضحاً،في التعديلات والتصريحات المتكررة من الأهداف العدوانية للحرب على قطاع غزة،وكذلك إقالة نتنياهو لنائب وزير الجيش داني دنون،وعندما يتوقف الحرب والعدوان،الكثير من الرؤوس العسكرية والسياسية والأمنية ستخسر مواقعها ومكانتها ورؤوسها على مذبح هذه الحرب الفاشلة والخاسرة.
صواريخ المقاومة المتطورة وعملياتها النوعية،مست بهيبة جيش الإحتلال ومعنويته،والذي بدأ في حالة خوف ورعب من المقاومة،الخوف من الأسر والتقدم البري،الرعب حد التبول والتبرز على الذات من الأنفاق،وعدم الخروج من العربات المدرعة والمصفحة خوفاً من الأسر،وهذا دفع بالعديد من جنود الإحتلال إلى إطلاق النار على أرجلهم لكي لا يذهبوا الى جبهة الحرب،وكذلك فصيل كامل من لواء جولاني تمرد على الأوامر الإلتحاق بالجبهة والمشاركة في الحرب على غزة،وحال الجبهة الداخلية،لم يكن بأفضل من حال جيش الإحتلال وجنوده،حيث مستوطني مستعمرات غلاف غزة،حتى لو توقفت الحرب العدوانية،فهم يرفضون العودة لمغتصباتهم،وكذلك الجبهة الداخلية للإحتلال بدت محبطة ومربكة وخائفة،وشعر مستوطنوه بأن هذه حرب حقيقية وليس نزهة،وكذلك تعطلت وشلت الحياة العامة داخل دولة الكيان،وما عنى ذلك من خسارة كبيرة للإقتصاد الصهيوني في العديد من القطاعات،وبالذات السياحة والفندقة والمطاعم،ناهيك عن ان المقاومة،لأول مرة في تاريخ الصراع العربي -الصهيوني،طالت بصواريخها كل المدن الصهيونية الفلسطينية المحتلة عام(1948)بما في ذلك القدس،وكذلك فرضت حظراً على غلافه الجوي،شل حركة الطيران من وإلى مطار اللد.
الحرب والعدوان على غزة،كشف عورات النظام الرسمي العربي،حيث وجدنا ان العديد من دول النظام الرسمي العربي،مشيخات النفط على وجه التحديد،قد اصطفت الى جانب العدو في العدوان،وتبنت مواقفه في نزع سلاح المقاومة،وجزء منها كان لديه الإستعداد لتغطية تكاليف العدوان على غزة،والبعض الاخر قصر نظر سياساته،ومواقفه المتشنجة من حماس وخلافه معها،على خلفية علاقتها التنظيمية والأيديولوجية مع حركة الإخوان المسلمين،وتدخلها لصالحهم في الشأن الداخلي المصري،جعل الدبلوماسية المصرية كمن تطلق النار على رجليها،ولا ترى الأمور إلا من زاوية وضعها الداخلي،واختزال المقاومة والشعب الفلسطيني في حماس،وهذا جعلها محط إتهام بالتواطؤ والوقوف الى جانب العدو في حربه على غزة،وهذه ليست مجرد تهيؤات او إسقاطات لرؤيا او موقف سياسي،بل قادة الكيان الصهيوني،قالوا بأن ميزة هذه الحرب،كشفت عن وجود علاقات إستراتيجية بين العديد من الدول العربية ودولة العدو وإتفاقها في القضاء على المقاومة الفلسطينية،وهذا ما ظهر في تصريحات العديد من قادة اسرائيل والدول الأوروبية الغربية،فداني دنون نائب وزير الجيش الصهيوني،قال"علينا ان نخرج منتصرين من هذه الحرب،لكي لا نخذل الدول العربية التي راهنت علينا،وفرنسا قالت بان ضغوط عربية تمارس عليها،لمنع تغير موقفها من تاييد العدوان على غزة.
و في إطار الدعم والمساندة لقوى المقاومة وشعبنا الفلسطيني واهلنا في قطاع غزة،وجدنا هناك ثبات في الدعم والمساندة بالفعل لا بالقول على كل المستويات من قبل معسكر المقاومة(ايران وسوريا وحزب الله)،أسلحة ومساعدات وتمويل وحضانة سياسية واعلامية ودبلوماسية،وكذلك كان هناك حراك شعبي ورسمي جارف ومؤيد لشعبنا ومقاومتنا في دول امريكا اللاتينية،والتي ادانت العدوان ووصفت العدو بدولة الإرهاب،وسحبت سفرائها من دولته،وألغت اتفاقيات معه،وكذلك زيارات رسمية،وهذا الحراك الشعبي على المستوى العالمي كان ملحوظاً،في حين لم يكن بالمستوى المطلوب على المستوى الشعبي العربي،وبما عكس ضعف وهزالة الأحزاب العربية المعارضة إسلامية وقومية ويسارية وتقدمية ،فواضح بان ازماتها الداخلية وإنعزالها عن الجماهير،جعلها غير قادرة على التجييش والتجنيد للحركة الجماهيرية بشكل كبير.
ولكن رغم كل هذا الدعم الشعبي والجماهيري على المستوى الأوروبي الغربي،والذي دفع بوزيرة في الخارجية البريطانية الى الإستقالة إحتجاجاً على سياسة بلدها تجاه العدوان على غزة،وجدنا أمريكا وأوروبا الغربية الإستعمارية،وقفت الى جانب دولة الإحتلال،وتبنت وجهة نظرها،وقالت بأن من حقها الدفاع عن نفسها،في مناصرة للجلاد على الضحية،وازدواجية و"تعهير" لكل مبادىء وقوانين ومواثيق القانون الدولي واتفاقيته،وما التغني بقيم ومفاهيم الحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان،إلا لذر الرماد في العيون،وتصبح نافذة التطبيق والأخذ بها فقط عندما تخدم مصالحها واهدافها،والأدهى من ذلك أن يقدم رأس الهيئة الدولية،الأمم المتحدة وامينها العام على تأييد العدوان على قطاع غزة،رغم ان اسرائيل قصفت مدارس ومقرات دولية تأوي سكاناً فلسطينيين هربوا إليها نتيجة القصف الصهيوني،ولأول مرة تكون المناصرة للجلاد على الضحية بهذا السفور والوقاحة،رغم ما إرتكبته اسرائيل من جرائم ومجازر وابادة جماعية وتطهير عرقي.
الحرب أظهرت توحد الفصائل الفلسطينية في الميدان،وعكست تمايزاً واضحاً لحركة الجهاد الإسلامي،من حيث الخطاب السياسي الوطني الوحدوي الجامع لقادتها أمينها العام (أبا عبد الله) رمضان شلح ونائبه زياد النخالة،وكذلك التغطية الإعلامية المهنية والوطنية العامة الموحدة، وأيضاً تميز دورها في الميدان والجانب العسكري،من حيث حجم ونوعية عملياتها العسكرية،الى جانب حركة حماس التي تميزت كذلك في عمليات الإنزال خلف خطوط العدو،والعمل العسكري،وحركة الجهاد وسرايا القدس،دفعت خيرة قادتها شهداء لمعركة البنيان المرصوص،القادة مسؤول الإعلام الحربي صلاح أو حسنين "أبو احمد" والقائدين شعبان الدحدوح ودانيال منصور .
وكذلك هذه الحرب هزت الشجرة الفلسطينية بقوة،واسقطت عنها الأوراق الصفراء واللغة الصفراء والخطاب الأصفر،وجعل السلطة الفلسطينية،والتي بدت تلهث للحاق بالحركة الجماهيرية والمزاج الوطني،الذي بدا غاضباً وساخطاً على مواقفها وسياساتها،وأصبح يضغط عليها بشكل فاعل،لكي تاخذ مواقف ترتقي الى حجم التحدي والحرب التي تشن على شعبنا الفلسطيني، ورغم ترددها وإرباكها والتي شعرت بأن المقاومة تشق وتحفر مساراً جديا في النضال والمقاومة،أجبرها على ان تعدل من مواقفها،وتجعل سقف وحدود موقفها ومطالبها،مطالب المقاومة،وبما مهد لوحدة سياسية فلسطينية،تجلت على أثر ذلك في الوفد الفلسطيني الموحد للمفاوضات مع العدو بطريقة غير مباشرة في القاهرة،تلك المفاوضات التي تحاول اسرائيل
المماطلة فيها والتسويف وعدم التسليم بمطالب المقاومة،والتي يقف في مقدمتها رفع الحصار وفتح المعابر وتوسيع منطقة الصيد البحري لمسافة (12) ميل بحري،وإلغاء المنطقة العازلة،وإعادة بناء المطار،وانشا ميناء بحري،وإطلاق سراح الأسرى الذين جرى اعتقالهم في الحملة الأخيرة،ومن ضمنهم الأسرى المحررين المختطفين،أسرى صفقة الوفاء للأحرار"شاليط، الذين إعيد إعتقالهم،وسراح أسرى الدفعة الرابعة،الذين رفضت اسرائيل إطلاق سراحهم،وفتح ممر بري آمن يربط الضفة بالقطاع.
وعلى خلفية رفض اسرائيل للجوهري من هذه المطالب،المطار والميناء والممر الامن وإطلاق سراح الأسرى المحررين المختطفين وإصرارها على نزع سلاح المقاومة،رفضت فصائل المقاومة،تمديد الهدنة التي رعتها مصر لمدة ثلاثة أيام،حيث تساقطت الصواريخ على المغتصبات الصهيونية،مجرد إنتهاء الهدنة،ومن ثم عادت الأمور الى التهدئة من جديد حيث توافقت الفصائل الفلسطينية على تهدئة جديدة لمدة ثلاثة أيام،متمسكة بتنفيذ مطالبها،وما رشح من اخبار بأنه في إطار المفاوضات غير المباشرة التي ترعاها مصر بين الفلسطينيين والإسرائيليين للتوصل إلى هدنة دائمة بين الطرفين في قطاع غزة توصلت إلى اتفاق حول معظم النقاط التي كانت تحتاج إلى حل.
وقالت الحكومة المصرية في بيان "أمكن التوصل في هذا الإطار إلى اتفاق حول الغالبية العظمى من الموضوعات ذات الاهتمام للشعب الفلسطيني وظلت نقاط محدودة للغاية دون حسم الأمر الذى كان يفرض قبول تجديد وقف إطلاق النار كي يتسنى مواصلة المفاوضات للتوصل إلى توافق حولها".
واضح بأن السيناريو المرجح،هو موافقة اسرائيل على غالبية المطالب الفلسطينية،فإسرائيل في هذه الحرب هي من استجدت التهدئة اكثر من مرة،على لسان وزير الخارجية الأمريكية كيري،والمقاومة لم تستجب،وهذا يجعلنا متيقنين بأن توحد المقاومة وصلابتها وقدرتها على توجيه ضربات مؤلمة للعدو،وتهديد جبهته الداخلية وشل حركة اقتصاده وطيرانه،وكذلك الخسائر الكبيرة في قواته العسكرية،يجعلنا نرجح هذا الخيار،مع احتمال بقاء الباب مفتوحاً على كل الخيارات،بما فيها التصعيد الشامل،والذي قد يقود الى مواجهة أبعد من غزة.