الضفة وغزة نموذجان لا يعمّمان

بقلم: هاني المصري

سأتوقف في هذا المقال أمام محاولة تعميم نموذج الضفة على غزة وبالعكس.
من جهة، يحاول معسكر الرئيس تعميم نموذج السلطة في الضفة الغربيّة على قطاع غزة، ويقدمه باعتباره النموذج الناجح، ويتجاهل الضرر الفادح الناجم عن التخلي عن معظم أوراق القوة والضغط، خصوصًا خيار المقاومة الذي من دونه لا يمكن استعادة الحقوق وتحقيق الأهداف، حتى بحدها الأدنى. ويظهر ذلك من خلال استمرار الرهان على «اتفاق أوسلو» والتزاماته واعتماد إستراتيجيّة الانتظار والبقاء والتكيف مع الاحتلال حتى بعد أن تخلت الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة عن الالتزامات الإسرائيليّة فيه، ومضت في ابتلاع الأرض وتهويدها واستيطانها، وخلق أمر واقع جديد يجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد الممكن عمليًا.
فشل نموذج الضفة ليس سياسيًا فقط (في إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة على الأرض، وهذا هو المعيار الأساسي للحكم له أو عليه)، بل هو فشل كذلك في إقامة نظام يحفظ حقوق الإنسان وحرياته، ويضمن إجراء الانتخابات الدوريّة المنتظمة، ويحمي التعدديّة والمنافسة، ويوفر المساواة والعدالة الاجتماعيّة وتكافؤ الفرص، ويؤمن الاقتصاد الوطني وعوامل الصمود، بل بدأت بعد «أوسلو» وبسببه عمليّة الفصل بين القضيّة والأرض والشعب، إذ أصبحت القضيّة قضايا والأرض قسمت إلى (أ، ب، ج)، وإلى القدس والضفة وقطاع غزة، والشعب يكاد أن يتحول إلى شعوب، خصوصًا بعد الانقسام السياسي والجغرافي. كما تعمقت تبعيّة الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي وقضى النهج الليبرالي الجديد واستمرار التمسك بـ«اتفاقيّة باريس» على أي فرص بالتحرر الاقتصادي.
ومن جهة أخرى، تحاول «حماس» نقل نموذج غزة في المقاومة وغيرها إلى الضفة كما طالب محمود الزهار، الذي أعتبر أن الأمر لو تحقق في الحرب الأخيرة، لكان سيؤدي إلى تحقيق انتصارات تاريخيّة.
برغم أن الشعب واحد والقضيّة واحدة والعدو واحد، وأن الحق المقدس بمقاومة الاحتلال بكل أشكال المقاومة لا جدال فيه، وأن الضفة لو لم تكن مكبلة من السلطة والتزاماتها لكان يمكن أن تنصر غزة بشكل أفضل مما فعلت؛ إلا أن هذا لا يتعارض مع ضرورة الاعتراف بأن ظروف غزة تختلف اختلافًا بيّنًا عن ظروف الضفة من عدة نواحي، منها: جغرافيّة غزة ومساحتها وكثافتها السكانيّة، إضافة إلى جوار غزة لمصر التي كان يحكمها نظام ضعيف في آخر عهد حسني مبارك ما سمح بالأنفاق وتهريب السلاح، ثم ظهور «الربيع العربي» وصعود «الإخوان المسلمين» ـ حلفاء «حماس»ـ إلى الحكم في مصر، ما مكنها من توظيف الأنفاق بشكل كبير للحصول على الأسلحة والصواريخ إلى أن سقط حكم «الإخوان».
كما أن هناك عاملًا مهمًا جدًا لإظهار اختلاف الظروف بين الضفة وغزة يظهر في تفاوت الأطماع والأهداف الاستعماريّة الاستيطانيّة الصهيونيّة إزاء كل من المنطقتين. هذا العامل أدى إلى «الانسحاب» من غزة تحت وطأته أولًا وأساسًا، وثانيًا جرّاء المقاومة وما أدت إليه من تكاليف باهظة أكبر من الفوائد التي جنتها إسرائيل من استمرار الاحتلال. فالضفة مستهدفة بشكل أكبر بكثير من القطاع، لذلك لن تسمح إسرائيل ولا الأردن بنقل تجربة الصواريخ والقذائف من غزة إليها، كما أن الحكومات الإسرائيليّة لطالما سعت للتخلص من القطاع؛ لذلك انسحبت منه لتسهيل تعميق احتلال الضفة وقطع الطريق على إقامة دولة فلسطينيّة على الأراضي المحتلة العام 1967.
كما عانى نموذج السلطة الذي أقامته «حماس» في غزة من الحصار والعدوان، وقام بانتهاكات لا حصر لها لحقوق الإنسان وحرياته، فضلاً عن المساس بالحريات الشخصيّة، ومحاولة فرض نموذج بعينه للحكم من دون مشاركة الأطراف الأخرى، ومن دون مساءلة ولا محاسبة؛ ما أدى إلى وضع سيئ جدًا يعيشه القطاع.
يمكن التساؤل حول جدوى إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون كإستراتيجيّة لتحرير فلسطين أو حتى لتحرير الأراضي المحتلة العام 1967، في ظل الاختلال الفادح في ميزان القوى لمصلحة إسرائيل ومن يدعمها، ومع فقدان العمق الإستراتيجي العربي والإقليمي والدولي. والدليل أن التهدئة مع الاحتلال واستخدام المقاومة هما للدفاع عن النفس والسلطة أكثر مما يشكلان إستراتيجية للتحرير، ما يعني أن المقاومة المسلحة تنفع في هذه الظروف في قطاع غزة كإستراتيجية دفاعية، فصمود غزة وانتصارها أظهرا جدوى مقاومة غزة وأنفاقها وصواريخها وقذائفها، ومنعا احتلال القطاع.
في هذا السياق، يجب أن نكون أمناء ونقول إن «حماس» لو كانت تريد إقامة إمارة إسلاميّة في غزة لعقدت صفقة مع إسرائيل تحفظ فيها سلطتها مقابل وقف المقاومة، وحالت دون العدوان المتكرر على القطاع، ولما سعت للحصول على صواريخ وصلت إلى حيفا وما بعد حيفا. فـ«حماس» الضعيفة القادرة على السيطرة على غزة وضمان الهدوء على الحدود مصلحة إسرائيليّة، لكن «حماس» تنظر إلى سيطرتها على القطاع كمرحلة أولى على طريق تحرير فلسطين، لذلك رفضت الاعتراف بشروط الرباعيّة التي لو وافقت عليها لفُرِش السجاد الأحمر لها في البيت الأبيض.
كما رفضت «حماس» المفاوضات المباشرة، مع أن تصريحات موسى أبو مرزوق الأخيرة تعطي إشارة عن استعداد الحركة للتفاوض، حتى لو كان على غزة وحدها، وكأن ما يمنع التفاوض موافقة «حماس» أو رفضها، لا الثمن الذي يجب أن تدفعه حتى تقبل إسرائيل التفاوض معها، وهو قبول شروط اللجنة الرباعيّة، وما يمكن أن يؤدي إليه من تكرار نموذج أسوأ من «أوسلو».
تكمن مشكلة «حماس» ليس في أنها تريد إمارة في غزة، وإنما في أنها امتداد لجماعة «الإخوان»، وجزء صغير من مشروعهم على امتداد العالم الإسلامي؛ الأمر الذي يجعل المشروع الوطني الفلسطيني غير ذي أولوية. فالمشروع الإسلامي هو الأصل والمشروع الوطني الفلسطيني هو الفرع؛ لذلك على «حماس» أن تغلّب كونها جزءًا من الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة على كونها امتدادًا لجماعة «الاخوان المسلمين»، وهذا يكون من خلال إقامة مسافة بينها وبين الجماعة تتيح لها حريّة الحركة وعدم التدخل بما جرى ويجري في سوريا ومصر وليبيا والعراق، لأن القضيّة الفلسطينيّة تتطلب ذلك، بينما مصلحة الإخوان تدفع باتجاه مغاير.
إن أي خيار محكوم عليه بالفشل ما لم يبتعد المعسكران المتنازعان عن المصالح الخاصة والمحاور العربيّة والإقليميّة المتجاذبة، وما لم يكن انعكاسًا لشراكة سياسيّة كاملة تؤمن مشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي وتحفظ الحقوق وتضع إستراتيجيات للمقاومة والمقاطعة والتحرك السياسي وسائر العناوين الأخرى. إستراتيجيّات تستنهض كل عناصر القوة والضغط، وتأخذ الظروف الخاصة لكل تجمع فلسطيني بالحسبان، وتسعى لتغيير ميزان القوى بما يسمح بتحقيق الأهداف الوطنيّة.