تصويت مجلس العموم ليلة امس على قرارٍ، غير ملزم بأغلبية كبيرة (274 صوتا مقابل 12 صوتا)، للاعتراف بدولة فلسطين له دلالات عميقة تتعلق بطبيعة البلد "بريطانيا العظمى" صاحب التاريخ الاستعماري "دولة الانتداب"، وباعثة الوطن القومي لليهود في فلسطين بوعد بلفور من ناحية. وطبيعة العلاقة الوثيقة ما بينها وبين الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة من ناحية ثانية، ودورها المركزي والمحوري في الاتحاد الاوروبي والمؤثر على السياسات الاوروبية من ناحية ثالثة. ناهيك عن تناغم سياساتها مع الادارة الامريكية في قضايا الشرق الاوسط من ناحية رابعة.
مجرد فَتْحُ نقاشٍ للاعتراف بدولة فلسطين في مجلس العموم يشكل تحولا في التفكير "السياسي" لأحزاب سياسية مركزية في الساحة البريطانية كحزب العمال، بالتأكيد ليس بحق شعبنا في تقرير المصير بل في طريقة الوصول الى تقرير المصير، بعد سنوات طويلة لتبني موقف يقوم على أن الاعتراف بدولة فلسطين مشروطا بالموافقة الاسرائيلية عليها عبر المفاوضات الثنائية الفلسطينية الاسرائيلية، بتبني خيار تكريس الاعتراف بدولة فلسطين "كمساهمة في التوصل لحل الدولتين". وهي سياسية نجح الرئيس محمود عباس "بتكريسها" عبر اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة برفع مكانة فلسطين فيها الى دولة مراقبة.
تبني رئيس حزب العمال أيد ميليباند مشروع القرار الذي تقدم به أعضاء من حزب العمال في مجلس العموم، بعد تردده تخوفا من الانتخابات العامة في شهر أيار/ مايو المقبل، والطلب من جميع أعضاء الحزب في مجلس العموم بالتصويت لصالح مشروع القرار يجعل من الاعتراف بدولة فلسطين جزءا من النقاش العام في بريطانيا العظمى، والأجندة السياسية في الحملة الانتخابية المقبلة خاصة في ظل تحول في المزاج الشعبي ليس فقط في بريطانيا بل في مختلف الدول الاوروبية.
تبني حزب العمال لمشروع القرار جاء نتاج عمل دؤوب لقيادة حركة فتح في اطار العلاقات الثنائية التي تجمع حزب العمال وحركة فتح عبر الاشتراكية الدولية، بالإضافة الى النشاطات التي قامت بها مفوضية العلاقات الخارجية للحركة من خلال اللقاءات الثنائية والزيارات التي نظمتها لأعضاء الحزب خلال السنوات الأربع الماضية للأراضي المحتلة بشكل منتظم.
قامت حركة فتح بجهد هام لتحويل مواقف وانطباعات الرأي العام في الشارع الاوروبي الى مواقف للأحزاب السياسية عبر الاحزاب الاوروبية الاشتراكية، وهو جهد كبير وهام يمكن لمس مفاعيله عبر تغيير سياسات الدول الاوروبية التي دعمت بشكل كامل السياسيات الاسرائيلية في فترات سابقة مثل هولندا. وقبل ايام تحول ذلك من وعد لحزب اشتراكي سويدي بالاعتراف بدولة فلسطينية الى اعتراف حكومي بعد فوزه بالانتخابات، كما بات الاعتراف بدولة فلسطين في اروقة قصر الاليزيه ووزارة الخارجية الفرنسية امرا لا مفر منه للوصول الى حل الدولتين.
هذا التحول في نقل النقاش للاعتراف بدولة فلسطين إلى اروقة مؤسسات الدولة بفعل ضغط حزبي وشعبي، يشير الى قدرة حركة فتح على الانبعاث من جديد في المعارك السياسية، وعلى استعادة قوتها واستنهاض عافيتها في ساحات العمل البعيدة، بل أيضا تسترجع إرث محمود الهمشري وعصام السرطاوي ونعيم خضر وتسترشد به في المعركة السياسية الدائرة رحاها في الساحة الاوروبية. هذه "المعركة" تحتاج الى رؤية وإستراتيجية وبرنامج عمل واضح المعالم تحدد فيه المهام والاختصاصات، وتحدد فيه الادوار والأدوات لصيانة تناغم الاداء.