تونس الصغيرة والدروس الكبيرة

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

تأبى تونس إلا أن تكون درة العرب، وتاج الشعوب، والواحة الخضراء بحق، والأستاذة بجدارة، والقدوة بقناعة، والأولى بحنكةٍ وخبرةٍ ومهارةٍ، فكما كانت صاحبة الشرارة الشعبية الأولى، ومنطلق الحراك الشعبي العربي العام، فأرست مفاهيم التغيير، ووضعت أسس الثورة والانتفاضة، فقد أصرت على أن تواصل المسيرة، وتكمل الدور، وتلعب الشوط الديمقراطي حتى نهايته، على الرغم من مساحتها الصغيرة، وتعداد سكانها المحدود، وعدم محورية دورها، أو مركزية وظيفتها بالمقارنة مع غيرها، إلا أنها بدت أنها أكبر من مساحتها الجغرافية، وأكثر انتشاراً من عدد سكانها القليل نسبياً، وأعمق تجربةً من غيرها، وأصرت على أن تكون أستاذةً ورائدة، ومثالاً وقدوة، وأن تثبت أن الشعب وحده هو صاحب القرار، ومالك السلطة، وأنه وحده من يملك مفاتيح المرحلة، ويتحكم في أصول وقوانين اللعبة الديمقراطية.

فقد شكلت نتائج الانتخابات التشريعية التونسية الثانية بعد الربيع العربي انعطافة جديدة في الشارع التونسي، وأسست لمرحلةٍ سياسيةٍ جديدةٍ قد تكون مختلفةً عما سبقتها، ومغايرة لها، إذ اختار الشعب التونسي في انتخاباتٍ حرةٍ ونزيهةٍ، ودون تدخلٍ خارجي أو وصايةٍ أجنبيةٍ، حزباً جديداً ليكون في الصدارة متقدماً عن الحزب الأول الذي فاز في الانتخابات السابقة، إذ تقدم حزب نداء تونس الجديد على حزب النهضة القديم العريق، الذي لم يمض عليه في الحكم أكثر من ثلاثة سنواتٍ إلا قليلاً، وهي فترةٌ قد لا تكون كافية تماماً لإصدار حكمٍ على تجربة الحزب في الحكم، ولا تمنح المواطنين الفرصة لتقييم وتقدير أدائه في الحكومة والبرلمان خلال السنوات القليلة الماضية.

الانتخابات التشريعية التونسية جاءت امتداداً لثورة الشعب التونسي، التي بدت أنها مختلفة عن الحراك الشعبي العربي كله، إذ أنها كانت ثورةً بنفسجيةً بحق، لم تسفك فيها دماء، ولم ترتكب فيها جرائم، ولم تقع فيها مجازر، ولم تدخل البلاد في أتون حربٍ طاحنةٍ، ولم يتصارع أهلها، ولم تشتبك أحزابها، ولم ينقسم جيشها، ولم تتشتت قواها، كما حدث مع غيرها من الدول العربية، التي جعلت الربيع خريفاً، والخريف حريقاً، وتسببت في دمار البلاد، وتشريد الشعب، وقضت على أحلام الشعوب في التغيير الديمقراطي الحر.

بكلِ مسؤوليةٍ واحترامٍ، وفهمٍ ووعيٍ واقتدار، وأمانةٍ ومصداقيةٍ وعقلانيةٍ، وحزمٍ حكيمٍ قاطعٍ، وقف الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة التونسي، ليبارك لحزب نداء تونس فوزه في الانتخابات التشريعية، وليعلن أن حزبه بات الحزب الثاني في البلاد، متراجعاً عن الموقع الأول الذي حاز عليه وحققه شعبياً في الانتخابات السابقة، وقد سلم بنتائج العملية الديمقراطية، ووقف احتراماً لها، ونزل عند نتائجها، مقدراً إرادة الشعب، ورغبة المواطنين، ومحترماً عقولهم، وغير معترضٍ على قرارهم.

لا شك أن زعيم وكوادر حزب النهضة التونسي حزنى على النتائج، وأنهم غير راضين عن أنفسهم، فقد كانوا يتمنون غير ذلك، ويحلمون بما أفضل بالنسبة لهم، ويرون أنهم كانوا قادرين على تقديم نموذجٍ أفضل، ورسمِ صورةٍ أجمل، إلا أنهم يثبتون لغيرهم أنهم يقبلون بنتائج الانتخابات، ويسلمون بأصول العملية الديمقراطية، ويقرون بتداول الحكم، ولا يتشبثون بالسلطة إذا قرر الشعب اختيار غيرهم، وتقديم سواهم، وتمكين أحزابٍ جديدةٍ من ممارسة الحكم، وأخذ فرصتهم في إدارة البلاد، وتسيير شؤون الحياة، طالما أنهم جاؤوا بصناديق الانتخابات، بإرادةٍ شعبيةٍ صادقةٍ، وانتخاباتٍ حرةٍ شريفةٍ ونزيهةٍ وصادقة.

أثبت حزب النهضة التونسي، الإسلامي الهوية، والوطني الانتماء، أنه يؤمن بالتعددية ويخضع لرأي الأغلبية، وينزل عند حكم الأكثرية، وأنه لا يتمسك بالحكم جبراً، ولا يصر على البقاء في السلطة قهراً واغتصاباً، وأنه مع تعاور السلطات، وإشراك الجميع، وعدم إقصاء أحد، وأنه لا يقبل بالتهميش ولا بالحرمان، ولا يوافق على التجريد واللعن، ولا على التجريم والطرد، بل يؤمن أن حكم البلاد لا يكون بالفردية والاستئثار، ولا بالهيمنة والاحتكار، وإنما بالمشاركة والمعاورة، وبالتبادل وحرية الاختيار.

التجربة الديمقراطية التونسية يجب أن تكون مثالاً لكل الشعوب العربية، لتكون حرةً في القرار، ومسؤولةً عن الاختيار، فلا يحق أبداً مصادرة دور الشعوب، أو الوصاية عليها، بحجة محاربة الإرهاب، أو التصدي للمهمات، ومواجهة الكروب والأخطار، والتصدي للتحديات والصعوبات.

الانتخابات بأشكالها المتعددة فرصةٌ للشعب أن يحكم على تجارب أحزابه، ويمارس دور الرقابة عليها، ويدعوها لأن تراقب أداءها، وتشرف على عمل مسؤوليها، وتحاسب المخطئين فيها، لتنهض بدورها، وتحسن أداءها، وتكون عند حسن ظن شعبها بها، الذي بات يختار الأفضل، ويبحث عن الأنسب، ويقف عن الأخطاء، ويعد ويركز على التجاوزات، إذ لا ينسى الشعب العثرات، ولا يسلم بالعجز، ولا يقبل بأي تبريراتٍ للفشل أو التقصير والإهمال، الأمر الذي يوجب على الأحزاب أن تقف وتفكر، وأن تحسن وتطور، وأن تراجع وتحاسب، وأن تدقق وتتابع، قبل أن يأتي اليوم الذي يحكم فيه الشعب ويختار، فيحاسب ويعاقب، أو يكافئ ويجازي.

إنه درسٌ تونسيٌ جديدٍ، بالغٌ وحكيمٌ، وصادقٌ ووجيهٌ، بأنه لا خلود في المناصب، ولا بقاء في السلطة، ولا تأبيد في الحكم، ولا قهر جديد للشعب، ولا تبديل في اللوائح والنظم، ولا تزوير في النتائج، ولا تدخل في الإرادات والرغبات، وهو رسالة رسميةٌ عربية، أن الشعوب العربية ما زالت تملك قرارها، وتتحكم في مصيرها، وتملك القدرة على الاختيار بنفسها، وأنه لا يستطيع أحدٌ أن يملي عليها، أو أن يفرض مواقفه على أبنائها، فهنيئاً لتونس نجاحها في التجربة الديمقراطية، وانتهاء انتخاباتها التشريعية، وهنيئاً للحزب الفائز، وكل التقدير لحزب النهضة، الكادر والقائد، والزعيم والنخبة، الذي بادر إلى التهنئة والاعتراف، والتسليم والقبول، فهنأ برجولة، وبارك بكبرياء، واعترف بمسؤوليةٍ وحكمةٍ.