خيبة أمل سكان قطاع غزة

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

لا نفشي سراً ولا نذيع خبراً عندما نقول بأن سكان قطاع غزة قد أصابهم اليأس، وحل بهم السقم، ونزل بهم البأس، وسيطرت الكآبة عليهم، وطغا الوجوم على وجوههم، وكسا الأسى حياتهم، وانعكس الشقاء على أجسادهم، ونال الأذى من روحهم، وانعكست المعاناة على تصرفاتهم، فبدت نفوسهم ضيقة متحشرجة، عصبيةً ثائرة، وغاضبةً ناقمة، لا تصبر ولا تحتمل، ولا تسكت ولا تحتسب، ولا تأمل ولا تثق، ولا تؤمن ولا تصدق، ولا تعلق على غير الله أملاً، ولا تنتظر من غيره فرجاً.

ولا نكذب عندما نصفهم بأنهم يائسين محبطين، ومحطمين مدمرين، وحائرين تائهين، وغلابة مساكين، وبسطاء معترين، وفقراء معدمين، ومحتاجين معوزين، يتخبطون ويتعثرون، ويسبون ويلعنون، ويثرثرون ويتكلمون، وينتقدون ويعيبون، ويدينون ولا يعفون، ويتهمون ولا يبرؤون، ويعممون ولا يستثنون، يتحدثون بلا وعي، ويعيشون بلا أمل، ويمضون بلا مستقبل، ولا يتوقعون من غير الله الفرح، فهو موئلهم وناصرهم، وسامع دعاءهم وملبي رجاءهم، إذ لا يأملون من الصديق قبل العدو لهفة النجدة، ولا سرعة العون، ولا عاجل الغوث، ولا صادق العطاء، ولا تجرد في البذل، ولا سخاء في الغوث، ولا إخلاص في المساعدة.

ولا نهول الأشياء، ولا نضخم الحقائق، ولا نعظم الوقائع، ولا نفتري ولا ندعي، ولا نبالغ في الوصف، ولا نفرط في العرض، ولا نقول غير الصدق، ولا نتحدث بلسان فريقٍ من الناس، وشريحةٍ من السكان، ولا فئةٍ من المتضررين، ومجموعة من المعذبين، إنما ما نقوله هو حال الناس جميعاً في قطاع غزة، وصورة السكان بكل أطيافهم، وجميع صنوفهم، وكل مناطقهم، في المخيمات والبلدات، وفي القرى والمدن، وهو وصفٌ لشؤونهم كلهم، وتعبيرٌ عن حالهم جميعاً، فالمعاناة شاملة، والأذى سابغ، والألم عامٌ وكامل، والشكوى من الجميع، والحاجة ماسة للكل، والنقص والعوز بلا استثناء.

لا شيء في قطاع غزة يبشر السكان بقرب الفرج، ودنو ساعة بدء إعادة إعمار ما دمره العدوان وخربه الحصار، ولا اشاراتٍ تدل على انتهاء المعاناة، وزوال الألم، ورفع الحصار، ونهاية العقاب، بل كل شيء فيه يدل على اليأس، ويبعث على الإحباط، فلا اجراءاتٍ عملية لبدء عملية الإعمار، ولا موافقة على شاحناتٍ تحمل مواد البناء ومستلزمات الإعمار، ولا تحويل لأموال المساعدات، ولا سماح لجهاتٍ مانحة وأطرافٍ ترغب في المساعدة بإدخال الأموال أو المؤن والمعدات، ولا تسهيلاتٍ على المعابر، ولا استعداداتٍ لدى الدوائر، ولا جهوزية لأي طارئ، ولا نية حقيقية لأي جهدٍ جادٍ، ولا عملٍ فاعل.

ما زالت الخلافات قائمةً على أشدها بين كل الأطراف، بين أصحاب الشأن والجيران، وبين الأعداء والمانحين، وبين المسؤولين والمتضررين، على من يشرف على البناء، ومن هي الجهة المسؤولة عن تقديم المساعدات، وصرف أذونات استلام الاسمنت والحديد، وتحديد كمياتها وأنواعها، والموافقة على توقيت صرفها وجهة استلامها، وكيف ستتم آلية مراقبة عملية الإعمار، ومتابعة التنفيذ، لئلا يسمح للمقاومة بالاستفادة من المساعدات المقدمة، ولا من التسهيلات المتوفرة، في ترميم الأنفاق المدمرة، أو بناء أخرى جديدة.

الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية، منشغلون ومختلفون، بل متشاكسون ومتعارضون، يعاندون ويخالفون، ويصدون ويمنعون، ويؤخرون ويعرقلون، ويضعون الشروط المعقدة، ويبالغون في رسم السياسات المتشددة، وبيان المواصفات الكثيرة، وتحديد التفاصيل المضللة، بينما سكان قطاع غزة يعيشون في ظل معاناةٍ دائمةٍ، أليمةٍ وقاسية، مستمرةٍ وباقية، فالبيوت مدمرة، وآلاف العائلات تعيش في العراء بلا مأوى، أو في المدارس وما بقي من المساجد، بلا أثاثٍ أو متاع، وبدون خدماتٍ أو تسهيلاتٍ، علماً أن فصل الشتاء قد دخل، وبدأت أمطاره في الهطول، وعما قريبٍ ستتجمع مياهه، وستتحرك سيوله، في ظل البرد والرياح والعواصف، ما سيجعل الحياة أكثر صعوبةً وقسوة، وأشد معاناةً وألماً.

كما لا كهرباء ولا خدماتٍ تقوم عليها وتشتغل بها، ولا مياه للشرب كافية، ولا أعمال تنظيف ولا عمليات صرفٍ صحية، ولا عمل ولا وظائف، ولا أموال ولا رواتب، ولا بنوك تعطي، ولا مصارف تدفع، ولا معابر تفتح، ولا مرضى يسافرون، ولا طلاب يغادرون، ولا أصحاب مصالح تسهل أمورهم، وتذلل العقبات أمامهم، ولا أدوية تدخل، ولا مستلزماتٍ تمر، ولا شيء مما يخفف عن الناس، ويساعدهم على الصمود والبقاء يسمح له بالدخول، إذ الحصار شامل، والعقاب كامل، والمعاناة دائمة ومستمرة.

الناس في قطاع غزة لا حديث عندهم، ولا أخبار يتناقلونها بينهم، ولا أسئلة يثيرونها، ولا شيء يشغلهم سوى التفكير في استعادة حياتهم، ومباشرة أعمالهم، وإعمار بيوتهم، ولكن طول الأمد، وجمود الحال، وعدم تغير الظروف، يدفع الناس إلى يأسٍ أكبر، وإحباطٍ أشد، وإحساسٍ بالمظلومية أعمق، وبالحرمان المقصود، ما دفع الكثير منهم إلى التفكير بالهجرة واللجوء، والسفر والمغامرة، ولو كان في سفرهم منيتهم، وفي رحلتهم غرقهم ووفاتهم، وانتهاء حياتهم ونهاية أحلامهم، ولكنهم في ظل انعدام الأمل، وغياب الحل، وتضاؤل الفرص، فإنهم يغامرون بأنفسهم وبأولادهم، ويضحون بما بقي من أموالهم، علهم يجدون مكاناً أفضل، وفرصةً أنسب.

لا نغمض عيوننا، ولا نخفي الحقائق عن أنفسنا، ولا نخدع بعضنا، ولا ندعي غير ذلك أمام غيرنا، فحال السكان في غزة بئيسٌ وقاسي، وشكواهم مرة ومحزنة، وما ينتظرهم في ظل استمرار الحرمان أكبر وأخطر، وأشد وأنكى، فما من مجتمعٍ مر في مثل هذه الظروف، وعانى من مثل هذه القسوة، إلا وانتشر فيهم أدواءٌ وأمراض، وأوبئة ومخاطر، فهل ننتظر أكثر حتى يعم الفساد بين السكان، وتنتشر بينهم الرذيلة، وتكثر فيهم المخدرات والمسكرات، ويتسلل إليهم العدو من جديد، من بوابة الفقر والحاجة، ومن ثغرات المرض والألم.

أيها المسؤولون عن الشعب والوطن، المتحدثون باسمه، والمفاوضون عنه، والمقاومون به، والمناضلون من أجله، انتبهوا إلى الخطر الداهم، وعجلوا بإنقاذ شعبكم ومساعدته قبل فوات الأوان وضياع الفرصة، فلا تلتفتوا اليوم إلى شيء غير النصرة، ولا تنشغلوا بعملٍ غير الغوث والمساعدة، ولا تتأخروا في المدد، ولا تفرقوا في العون، ولا تميزوا بين الناس في المساعدة والمساندة.