لم يكن قد انهي دراسته الثانوية بعد عندما تعرفت عليه عام 1986م، كان يسكن بجوار منزلنا في حي تل السلطان برفح، وقد جاء لزيارتي مع عدد من شباب الحي بعد أن خرجت من سجن غزة المركزي، حيث مكث فيه خمسة وثمانون يوما أواجه تحقيقا قاسيا متناقلا بين مساحات " المسلخ " و أقبية الزنازين، دون ان يتمكن المحققون الإسرائيليون من انتزاع أي اعتراف مني رغم العديد من الشهادات والأدلة التي قدموها من اجل كسر صمودي وإدانتي، ولتوجيه ضربة للحزب الذي انتميت له في مطلع شبابي ومشواري النضالي .
كان شابا تغلب عليه ملامح طفولية خجولة، وهدوء كما النسمات التي تتسلل للمكان فارضة وجودها رغم نعومتها، كان ينظر إليه البعض من أترابه كطفل مذلل، متوهمين بأنهم الأقدر منه على موجهة المواقف الخشنة... كان ينصت لحديثي باهتمام عندما كنت احدث الشباب من حولي عن تجربتي القاسية في التحقيق التي صارت نموذجا متميزا في أذهانهم وعقولهم وعنوان لصمود المناضل في وجه أساليب القمع والفاشية الإسرائيلية التي قل ما يصمد المعتقلين أمامها، لفت انتباهي صمته وهدوئه وانتباهه الشديد لكل ما كنت أتحدث به، كنت اشعر بتميزه رغم أن شخصيته لم تكن تعرف معنى للمشاكسة كما أبناء جيله الشباب الذين كان يختلط بهم في الحي الذي كنا نسكن فيه .
محمد جودة.. الشاب الذي انحاز منذ ريعان شبابه لقضايا الوطن وهموم ابنا شعبه المعذب، فقد شعرت في ذلك الوقت انجذابه ورغبته في الانخراط بالعمل الكفاحي، وقد رفع من وتيرة حماسه اندلاع الانتفاضة الأولى التي أشعلت الشارع الفلسطيني بكل فئاته ضد الاحتلال الإسرائيلي وسياسته العنصرية القمعية، جاءني ذات مساء معربا عن رغبته في الانضمام لنشاطات الانتفاضة، وكان يقصد النشاطات لكفاحية السرية، لم أتفاجأ بطلبه رغم أن الآخرين من رفاقي قد تفاجئوا بذلك لمعرفتهم بطبيعته الهادئة التي لا توحي بتمكنه من ذلك، رحبت به، وأوضحت له طبيعة نشاطاتنا، وما يمكنه المشاركة به إلى جانب الرفاق، وقد وافق بحماس على ذلك، حيث كنا في ذلك الوقت ننتظم في مجموعات كفاحية لتنفيذ المهام الكفاحية في مختلف الميادين, وقد كانت هذه المجموعات تضم رفاقا في الحزب، وأخرى يتم تشكيلها من أصدقاء للحزب، اندمج محمد في احد هذه المجموعات، واذكر بأنه لم يتردد في تنفيذ كل ما كان يوكل له من مهام، لكنى في احد الأيام طلبت من الرفاق بوقف مشاركته في الأنشطة التي تحتاج إلى التخفي " ارتداء القناع " خشية عليه من الاعتقال، لان جسمه الممتلئ كان يكشفه للعامة رغم كل محولاته التخفي والتمويه، وفي احد الأيام كان يشاركني والآخرين إحدى المواجهات مع قوات الاحتلال في ذات الحي، حيث فوجئنا بمداهمة مجموعة من الجنود للمكان، هربنا، لكن حركته البطيئة لم تسعفه من الفلتان، حيث جرى إلقاء القبض عليه، فأوسع ضربا بالعصي وأعقاب البنادق، ولم تتمكن نسوة الحي من إفلاته رغم المحاولات المستميتة التي بذلت من اجل ذلك، حيث ثم نقله إلى احد المعسكرات القريبة، ليتم الفرج عنه في اليوم التالي، وقد غطت الكدمات معظم أنحاء جسمه .
هي مرحلة عاشها "أبو كرم" مناضلا مع رفاقه في حزب الشعب الفلسطيني، امتاز خلالها بالوفاء والإخلاص، وبحبه للوطن، وبطموحه الواسع للعلم والتعلم، حيث ساعده الحزب بالسفر إلى جمهورية "كازخسات" من خلال منحة تعليمية، ليدرس الإعلام، حيث كان نموذجا للطالب المجتهد والملتزم، وقد انهي دراسته بتفوق، ليعود للوطن مشاركا الجميع العطاء بوجهة وطنية خالصة، فكان كعادته محبا للجميع فأحبه كل من عرفة من كافة الفصائل والتوجهات، فلم يفرق بين احد، ولم تتملكه تلك النزعات التي شوهت واقعنا وثقافتنا، فقد كان نقيا بالمعنى الكامل للكلمة، كلله الصفاء ليضيف إلى شخصيته بعدا إنسانيا مميزا .
رفيقي وأخي "أبو كرم" .. لن نوفيك حقك مهما تحدثنا عن إنسانيتك وطيبة قلبك وصفاء وجدانك، لكن يكفيك الحب والاحترام الذي تتمتع به، والذي جسده التشيع الكبير الذي شارك فيه ألاف الجماهير حيث مثواك الأخير .. رحلت مناضلا مخلصا للوطن ولأبناء شعبك .. رحلت في غفلة لم نكن نتوقعها، فكانت الصدمة كبيرة والألم ثقيل .. رحلت لتبقى فينا ذكرى طيبة ناصعة البياض كما قلبك وتاريخك ، وستبقى بكل تفاصيلك حاضر كما كنت دائما حاضر في تلفزيون فلسطين تنقل الأحداث بكل مهنية، لتضيف رونقا خاصا سُيحفر في تاريخ الصحافة الفلسطينية معلما من العطاء والتفاني والإبداع .
لك منا أيها الحبيب كل الحب والوفاء والتقدير، ولأسرتك الكريمة كل الصبر والسلوان وطول البقاء، وستبقى دائما عنوان اعتز به كما رفقتك الطيبة الصادقة .. دمت حيا ودمت ميتا أيها الإنسان .