إثر النكبة الفلسطينية الكبرى عام 1948م، أخذ الشباب الفلسطيني يتلمس طريقه ويبحث عن أنجع الوسائل والسبل التي تحقق للشعب الفلسطيني حقه في العودة إلى وطنه وممارسة حقه في تقرير المصير وإنهاء حالة اللجوء والتشرد، وقد إنخرط الشباب الفلسطيني إثرها في العمل السياسي في مختلف الإتجاهات السياسية العربية القائمة من قومية وإسلامية وأممية وغيرها، ولكن كان هناك بؤر ثورية من الشباب الفلسطيني الذي إكتوى بنار النكبة والغربة والتشرد والشتات يأخذ منحاً وطنياً عملياً أقرب إلى الواقعية وإلى ظروف الشعب الفلسطيني والأمة العربية مثلوا طليعة نضالية حين تم تلاقي هذه البؤر المنتشرة في أوساط الشتات الفلسطيني والتي نذكر بعضاً منها لا حصراً ففي قطر كان محمد يوسف النجار ( أبو يوسف ) وعبد الفـتاح عيسى حمـود وكمال عدوان وفتحي بلعاوي رحمهم الله ومحمود عباس ( أبو مازن ) ورفيق النتشـه ( أبو شاكر ) وفـواز ياسـين ( أبو مروان ) وصبحي عبد القادر وأبو طارق الشـرفا وغيرهم ممن شـكلوا فيما بينهم بؤرة وخلية تأسيسية من خلايا فتح آنذاك كان لها دور طلائعي في تأسيس حركة فتـح ومدها بالأطر والقيادات وتوفير الدعم المادي والمعنوي لتعزيز مسيرتها ، شأنها في ذلك شأن البؤر والخلايا الحركية الفتحاوية التأسيسية التي كانت بمثيلاتها في تلك المرحلة في عدد من الدول العربية ونخص بالذكر منها بؤرة الكويت الطليعية والتي كان على رأسها الرئيس المؤسس ياسر عرفـات وبجانبـه خليل الوزير ( أبو جهاد ) وصلاح خلف ( أبو إياد ) وخالد الحسن ( أبو السعيد ) رحمهم الله وفاروق قدومي ( أبو اللطف ) وعادل عبد الكريم وعبد الله الدنان وتوفيق شديد وسليم الزعنون ( أبو الأديب ) وآخرون غيرهم وفي بؤرة الأردن نذكر محمد غنيم ( أبو ماهر ) وسميح كويك ( قدري ) وآخرين وفي السعودية وليد نمر ( أبوعلي إياد ) وعبد اللطيف عثمان وماجد أبو شـرار ومحمد الأعرج ( أبو الرائد ) وصبحي أبو كرش ( أبو المنذر ) وسـعيد المـزين ( أبو هشام ) والحاج مطلق وأحمد قريع وعبد العزيز السيد وحكم بلعاوي ويونس فريجات ( أبو ناصر ) وآخرين كثر وفي لبنان جلال كعوش وزياد الأطرش رحمهم الله وزكريا عبد الرحيم ( أبو يحيا ) والقائمة تطول ، وفي ألمانيا حمدان عاشور وهايل عبد الحميد وهاني الحسن وآخرين ، فكان تلاقي هذه البؤر والخلايا الثورية وتقاطعهما في الفكر وفي الهم العام والهدف المتمثل في التحرير والعودة وفي صدق نواياها في التمرد على الواقع الفلسطيني البائس والمشتت والذي كان يرزح تحت وطأته كل ذلك مثل القاسم المشترك الأعظم بين هؤلاء الشباب الطلائعيين بضرورة التوحد في إطار سياسي نضالي واحد يجمع ويوحد طاقات الشعب الفلسطيني ويقوده نحو الثورة والتحرير والعودة ، فكانت هذه البؤر التي أشرنا إليها بمثابة النـواة المؤسسـة للبناء التنظيمي والثوري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (( فتـح )) ، والتي أخذت على عاتقها بعث الهوية الفلسطينية بشكل واضح وجلي ودون لبس أو تزوير في مختلف أماكن التواجد الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها ، ووضعت هذه الطليعـة النضالية أسس العلاقة التكاملية بين الهوية الفلسطينية وأبعادها العربية والإسلامية والدولية ، وحددت هدفها باستعادة الهوية وتحقيق العودة والحرية والاستقلال الفلسطيني ، وقد تميزت هذه الطليعة النضالية عن غيرها من القوى والنخب السياسية الفلسطينية الناشطة في تلك المرحلة بداية ستينات القرن الماضي ، والتي عجزت عن تقديم برنامج محدد وواضح لمفهوم ولماهية الهوية الفلسطينية حيث كانت جهودها وأفكارها مشتتة بين أبعاد الانتماء القومي أو الإسلامي أو الأممي ، مما أدى أن تصبح الهوية والقضية الفلسطينية في برامجها مجرد حالة انتظارية وجزئية هامشية وإن إدعت أنها قضيتها المركزية أمام سلم طويل من الأولويات والهموم المتداخلة في برامجها عربية أو إسلامية أو أممية واسعة .
فكان لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (( فتح )) وقيادتها الطليعية المؤسسة ، السبق في إنطلاق الكفاح المسلح في 01/01/1965م وفي إيقاظ الهوية الفلسطينية ونفض غبار النكبة والتشرد والتشتت عنها وبعثها من تخبطها ورقادها السياسي ، ووضعها في مكانها اللائق والصحيح عربياً وإسلامياً وإنسانياً ، وتقديم النقيض المباشر للكيان الصهيوني الذي يغتصب فلسطين ويشرد أهلها والذي يسعى جاهداً مع حلفائه الإقليميين والدوليين على طمس وتغييب الهوية الفلسطينية ليوطد كيانه الغاشم على كل ثرى فلسطين ، ولهذا السبب الرئيسي حظيت حركة فتح بما لم تحظ به أية حركة أو منظمة من التأييد والالتفاف الشعبي الفلسطيني والعربي حول مبادئها وأهدافها وقياداتها وبرامجها ووسائلها الكفاحية ، وأصبحت بالفعل المظلة والهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة والموحدة لقوى الشعب الفلسطيني على امتداد تواجده في الوطن وفي الشتات ، وأصبحت حركة متجددة ومتواصلة جيلا بعد جيل بإتجاه تحقيق الهدف الأساسي الذي رسمه المؤسسون الأوائل وتزداد قوة وصلابة يوماً بعد يوم بسبب تعبيرها المباشر عن أماني وتطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية والعودة والاستقلال وبناء الهوية والدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس ، وتمسكها بثوابت الشعب الفلسطيني زادها دائماً عمقاً وجماهيرية ، فهي حركة رائدة وقائدة للمشروع الوطني الفلسطيني ، ومن هذا المنطلق حرصت حركة فتـح باستمرار على استقلالها واستقلال القرار الوطني الفلسطيني ، وحرصت على القيام باستمرار في دورها الطليعي في قيادة وبناء المشروع الوطني الذي سيعيد للشعب الفلسطيني هويته وحقوقه الوطنية وسوف تستمر بالقيام بهذه المهمة في هذه المرحلة التاريخية الصعبة وفي كل مستويات العمل والأداء والمسؤولية الواجبة فهي تنتدب دائماً خيرة مناضليها وكفاءاتها وقياداتها لأداء المهام المطلوبة ولإدارة المؤسسات الفلسطينية التي هي نواة الكيان والدولة المستقلة ومن هذا المنطلق جاء انتخاب حركة فتح في مؤتمرها السادس للسيد محمود عباس أحد قياداتها التاريخية المؤسسة والكفؤة لرئاستها لأنها تجد فيه المخلص والقوي الأمين القادر على إدارة دفة المسؤولية في هذا الموقع وفي هذه المرحلة والمحطة من مراحل إنجاز بناء الهوية والدولة ومواصلة مسيرة الكفاح الطويل من أجل إنجاز حقوق الشعب الفلسطيني في العودة والحرية والاستقلال ، فالسيد محمود عباس قد تميز وفي وقت مبكر بين رفاقه في اللجنة المركزية لحركة فتح بأن نحا منحاً فكرياً متميزاً بين رفاقه إنكب من خلاله على دراسة الحركة الصهيونية من حيث أساليبها وآليات عملها ومن ثم دراسة الكيان الصهيوني وتركيبته البنيوية الخاصة ووظيفته في السياسة الاستعمارية التي تعرضت وتتعرض لها منطقتنا العربية ، وكان قد توصل إلى نتيجة أن الكفاح المسلح وحدة لا يكفي أن يكون أسلوباً وحيداً لتحقيق الأهداف الفلسطينية خصوصاً بعد الأحداث المؤسفة التي كان قد شهدها الأردن وحركة المقاومة في أيلول 1970 م ، بل لا بد من ابداع سبل وأساليب أخرى تكون معززة للكفاح المسلح ، منها العصيان المدني ، والسعي لإحداث إختراقات سياسية للكيان الصهيوني ، وتشجيع تيار الهجرة المعاكسة لليهود من فلسطين إلى أوطانهم الأصلية ومواجهة الآلة الإعلامية والتعبوية والاقتصادية والدبلوماسية الصهيونية .. الخ .
ومع هذا المنحى الفكري والاهتمام التركيبي والبنيوي للحركة الصهيونية وكيانها الغاصب لدى محمود عباس بدأت تظهر ملامح منهجية يمكن أن يطلق عليها البرغماتية الثورية أو الواقعية السياسية وأخذ هذا المنهج بالتشكل التدريجي داخل صفوف حركة المقاومة وبرعاية من القيادة الفلسطينية ، فهـذا الاتجاه أصبح قادراً على كشـف آلاعيب وسياسـات الكـيان الإسرائيلي وقادر على مواجهته على مستوى الثقافة والفكر وكشف زيف ادعاءاته ومحاورته وضحد حججه الواهية ، ومقارعته في الساحة الدولية ، وما الإنجازات الدبلوماسية وتوالي الإعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية مؤخراً إلا برهان أكيد على ذلك ، فحركة فتح وفكرها الوطني الريادي وأساليبها النضالية المختلفة عبر خمسة عقود متوالية في مواجهة المشروع الصهيوني وحلفائه ، أثبتت أنها حركة الشعب الفلسطيني المعبرة عن آماله وتطلعاته وآمال وتطلعات الأمة العربية في هذه المواجهة التاريخية ، وقد جاءت الأحداث والتطورات الإقليمية والدولية لتؤكد صحة منهج وتوجهات حركة فتح .
وسوف تؤكد حركة فتح في مؤتمرها السابع المزمع عقده قريباً على هذه المبادئ والأهداف والمناهج التي إلتزمت بها وحققت من خلالها كافة الإنجازات والمكاسب الوطنية على أساسها وهديها لإستكمال أهداف النضال الوطني الفلسطيني في الحرية والعودة والإستقلال .