الانتخابات الإسرائيليّة وما بعدها

بقلم: هاني المصري

منذ الإعلان عن ذهاب إسرائيل إلى انتخابات مبكّرة، بدأت الإدارة الأميركيّة تحرّكًا هدفه غير المباشر إسقاط بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرّفة، وتمكين حكومة جديدة تساعد على إحياء ما يسمى "عمليّة السلام".

في هذا السياق، حاول جون كيري إقناع الرئيس الفلسطيني بتأجيل تقديم مشروع القرار الفلسطيني العربي إلى مجلس الأمن. وعندما فشل في ذلك، بذل جهودًا مضنية لضمان عدم حصول القرار على الأصوات التسعة المطلوبة لعرضه على التصويت، حتى لا تضطر الإدارة الأميركيّة إلى استخدام "الفيتو" ضده، وما يعنيه ذلك من إشارة سلبية ضد الفلسطينيين والعرب والمسلمين، في وقت تحتاج فيه واشنطن إليهم من أجل انتصارها في الحرب الجديدة التي أعلنتها ضد الاٍرهاب بصيغته الداعشيّة.

الأسطوانة المشروخة ذاتها، التي استمعنا إليها خلال الأعوام الأربعين الأخيرة، تُعزف عند فشل المساعي الرامية للتوصل إلى اتفاق سلام نتيجة تعنت وتطرف الحكومات الإسرائيليّة، فيصار إلى خداع الفلسطينيين بالقول إن عليهم التحلي بالصبر إلى حين تولي حكومة إسرائيليّة جديدة مقاليد الحكم، وأنه في حال عدم تجاوبها، فسيقوم الرئيس الأميركي حال وصوله إلى فترة رئاسية ثانية بالضغط عليها، إذ ساعتها لن يخشى من تأثير مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل.

وقد تغيّرت الحكومات الإسرائيليّة وكانت كل حكومة جديدة أكثر تطرفًا وأسوأ من سابقاتها، وتعاقب الرؤساء الأميركيون الواحد تلو الآخر، وكل منهم ينافس سابقه بكسب ود إسرائيل. فبيل كلينتون نكث بوعده لياسر عرفات وحمّله مسؤوليّة فشل قمة "كامب ديفيد"، وجاء بوش الإبن وحمل راية تغيير قيادة عرفات إلى أن تم اغتياله بمباركة أميركيّة. أما أوباما، فبرغم رغبته في التلخص من نتنياهو، إلا أنه لم يحمّله مسؤوليّة فشل الجهود الأميركيّة، بينما أقصى ما وصل إليه كيري كان تحميل الطرفين المسؤوليّة عن فشل أكثر من أربعين جولة مكوكيّة، هذا لفظياً، أما عمليًا، فقد هدد الفلسطينيين باستخدام "الفيتو" وقطع المساعدات ووقف العلاقات في حال مضوا في إستراتيجيّة التدويل.

لقد أثبتت إسرائيل، وليس أحزاب اليمين فيها فقط، أنها ليست جاهزة للسلام مع الفلسطينيين، ولا لأي تسوية تمنحهم الحد الأدنى من حقوقهم. صحيح أن هناك تفاوتات تكون مهمة حول بعض المسائل، إلّا أنّ هناك إجماعًا إسرائيليًا على لاءات أساسيّة تجمع الأحزاب الإسرائيليّة على اختلاف برامجها، وهي: لا عودة إلى حدود 1967، ولا تنازل عن القدس بل الاحتفاظ بها كعاصمة أبديّة موحدة لإسرائيل، ومعارضة حق العودة وأي حل عادل لقضيّة اللاجئين، واعتبار الأمن الإسرائيلي المرجعيّة الأساسيّة لأي مفاوضات أو حل، والتمسك التام بإسرائيل كدولة يهوديّة.

أما الخلافات بين الأحزاب الإسرائيليّة، فتكون بين مَن يطالب بإقامة دولة فلسطينيّة على أساس هذه اللاءات، وبين مَن يصرّ على فرض الحكم الذاتي إلى الأبد على الفلسطينيين، وبين مَن يعتبر أن الاعتراف بإسرائيل "اليهوديّة" شرط لاستئناف المفاوضات أو لتوقيع أي اتفاق، وبين مَن يرى أن إسرائيل "يهوديّة" ويجب أن تبقى كذلك ولا داعي لاعتراف الفلسطينيين وغيرهم من الأغيار بها.

ويرى البعض أن القدس الموحدة لا تتناقض مع تخلي إسرائيل عن بعض الأحياء العربيّة الآهلة بالسكان في شطرها الشرقي للحفاظ على نقاء الدولة "اليهوديّة"، وأن رفض حق العودة لا يتناقض مع السماح لبضعة آلاف من اللاجئين بالعودة إلى إسرائيل، ولكن ضمن سياسة "لمّ الشمل" الإسرائيليّة المعتمدة منذ قيام الدولة العبرية التي تسمح لبعض الأفراد من الانضمام إلى عائلاتهم.

وكبرهان على ما سبق، نشير إلى أن إسحاق رابين، الذي وقّع "سلام الشجعان" مع ياسر عرفات وحصل على جائزة نوبل للسلام، سُئِلَ بُعَيد التوقيع على "اتفاق أوسلو": ماذا تنوي أن تعطي الفلسطينيين في اتفاق السلام النهائي؟ فقال: 50 في المئة من "يهودا والسامرة"، فقيلَ له: لا يوجد قائد فلسطيني يمكن أن يوافق على ذلك، فقال: إذًا في هذه الحالة سيحتفظ كل طرف بما لديه!

كما سُئِلَ إيهود باراك حول العرض السخي الذي قدمه في قمة" كامب ديفيد"، فقال: كنت سأعطيهم 85 في المئة من "يهودا والسامرة" (وليس 96 في المئة كما أًشِيعَ وصَدَّقَ الإشاعةَ بعض الفلسطينيين والعرب)، في حين أن ما عُرِضَ حينها لا يصل في أحسن الأحوال إلى 69 في المئة، هذا مع تقسيم القدس الشرقيّة والأقصى، وتصفية قضيّة اللاجئين على أساس معايير كلينتون.

ولا يختلف ما طرحه إيهود أولمرت كثيرًا عمّا طرحه أيهود باراك، بل كان أسوأ، علماً أن ما طرحه كان على خلفيّة محاولته تلافي تأثير الفضائح التي تلاحقه من كل صوب، ولم يكن عرضه يحظى بقبول وزيرة خارجيته تسيبي ليفني، التي قالت في تلك الفترة بأن ما يطرحه لن يمر بالحكومة التي يرأسها ولن تقبله إسرائيل، وأعلنت معارضتها لعودة حتى لاجئ واحد، وتمسكها بإسرائيل كدولة يهوديّة.

وأخيراً، لا حاجة لإظهار البيّنة على مدى عداء حكومة نتنياهو للسلام، وحتى لإقامة دولة فلسطينيّة هزيلة. فكل ما تقوله وتفعله يدل على أنها لا تؤمن سوى بلغة القوة والتوسع وشراء الوقت حتى تستكمل بناء الأمر الواقع، الذي يجعل الحل الإسرائيلي بإحدى صيغه هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليًا.

ولا يوجد بديل عن اليمين، لأن الوسط وبقايا اليسار لا يختلفان كثيرًا عنه، خصوصًا أن التدخل الأميركي والخارجي لإسقاط نتنياهو سيعمل لمصلحته، وقد يكون من المناسب والأفضل للفلسطينيين فوز نتنياهو مرة أخرى، برغم أنّ يديه لا تزالان تقطران بدماء الفلسطينيين، لأنه وحزبه والأحزاب المشاركة معه تظهر إسرائيل على حقيقتها، الأمر الذي يدفع الفلسطينيين والعَرَب وأحرار العالم كله إلى التوحد ضده، ويشدد الضغوط على حكومته، بينما نجاح ما يسمى "المعسكر الصهيوني" ليحكم مع بعض اليمين أو أحزاب الوسط وبقايا اليسار وبكتلة مانعة من الأصوات العربيّة، سيعطي وجه إسرائيل قناعًا يزيف الحقيقة، وفي الوقت نفسه، ستبقى الحكومة تحت ابتزاز أحزاب اليمين القوية، لأنها تعبر عن الاتجاه المركزي في إسرائيل. حكومة جديدة ستستمر في العدوان والاستيطان والعنصريّة، كما فعلت حكومات حزب "العمل" منذ تأسيس الكيان العبري، مع أحاديث فارغة عن السلام والشريك الفلسطيني والدولة الفلسطينيّة التي أوجع شمعون بيريس وأمثاله رؤوسنا بالحديث عنها، بينما كانوا خير الأعوان لليمين الذي يهدم كل مقومات قيامها.

نقلا عن صحيفة "السفير" اللبنانية