صدق من قال إن قطع الأرزاق من قطع الأعناق، وحرمانُ الناس من حقوقهم حكمٌ بالموت عليهم، وقذفٌ بهم نحو المجهول، وإلقاءٌ بهم نحو الضياع، وتعريضهم بذلك للسقوط، ووضعهم في مواطن الخطر، ومهب الرياح الهوج العاتية، وتركهم في غابة الحياة التي لا ترحم نهباً للوحوش الضارية، والأنياب المفترسة.
فكيف لو كان قطع الأرزاق وحبس الرواتب في ظل ضائقةٍ اقتصاديةٍ شديدة، وحصارٍ خانقٍ، وحاجةٍ مذلةٍ، وبطالة عامة، وفقرٍ مدقعٍ، وحرمانٍ شاملٍ، ومعاناةٍ دائمة، وهوانٍ ملازم، وإذلالٍ متعمد، وسياسيةٍ مدروسة ومقصودة، وعدوٍ متربصٍ، ينتهز ويقتنص، ويراقب ويتابع، ويستغل ويحتكر، يبحث عن فرائسه، ويلاحق طرائده، ويتصيدهم وغيرهم في المياه العكرة، مستغلاً الظروف، ومستفيداً من سوء أوضاعهم، وبؤس حالهم، وضيق عيشهم، وحرمانهم من رعاية المسؤولين عنهم، والمعنيين بشأنهم.
حرمانُ أصحاب الحقوق من حقوقهم، وحبسُ رواتبهم، وتعليق حاجاتهم، وتأخير مستحقاتهم، وتنزيل رتبهم، أو منع ترفيعهم، وتشويه صورهم، والتعريض بهم، وإيذاء أشخاصهم، والافتراء عليهم، والتضييق على أسرهم، وتعذيب وإهانة أطفالهم وصغارهم، ومعاقبة آبائهم ومن يعولون، ظلمٌ وافتئات، وعتوٌ واستكبار، وغطرسة وعنادٌ، وعبطٌ وغباء، وضحالةٌ وجهالة، فهي سياسةٌ بغيظةٌ بشعة، كريهةٌ مريضة، عنصريةٌ مهينة، لا يلجأ إليها إلا العبيد، ولا يتبعها إلا الغلمان، الذين يساقون بالعصا، ويفرحون بالرغد، ويسعون نحو النعيم، فيظنون أن غيرهم مثلهم، ترغمهم كسرة الخبز، ويذلهم رغد العيش، ويسوقهم رب العمل بفتات مالٍ كبهيمةٍ تساق بعصا، أو تجري وراء حزمةٍ من العشب لتأكل وتعيش.
هذا الشعب الفلسطيني العربي المسلم، الحر الأبي الكريم، صاحب الأنفة والعزة والكرامة، الذي يسير بين الخلق مرفوع الرأس، منتصب القامة، شامخ الإرادة، موفور الكرامة، عالي الصوت سريع الحركة، واثق الخطوة، شديد الصرعة، صانع النصر وحاضن المقاومة، ومربي الرجال وصانع الأبطال، صبيانه رجال، ونساؤه أماجد، ورجاله فرسانٌ لا يشق لهم غبار، ولا تكسر إرادتهم قوة جبار، وقد أثبت لعدوه مراراً وما زال أنه صلبٌ وعنيدٌ، ومقاتلٌ شرسٌ شديد، لا يذل ولا يهان، ولا يرغم ولا يكره، ولا يعذب ولا يضرب، ولا يستباح ولا يعتدى عليه، ولا يستغل بالمال، ولا يستعبد بالعطايا، ولا تغمض عيونه الهبات، ولا تسكته عن الحق المكرمات، ولا يرضيه ما يرضي العبيد، أو ما يلقى إلى الصغار ألعاباً وملهيات، ولا تغمض عيونهم، وتخرس ألسنتهم هدايا تفتن القلوب، وتحرف العقول، وتزيغ ببريقها العيون والأبصار.
فهل يليق برئيسٍ أو أمينٍ عامٍ أو رئيس مكتبٍ سياسي، أو أي مسؤولٍ آخر، سلمه شعبه الأمانة، وارتضاه مسؤولاً، وقبل به أميناً ورائداً، أن يعاقب شعبه وأهله بالمال، وأن يؤدبهم بالرواتب، وأن يقرص آذانهم بالجوع، وأن يجبرهم على ما يريد بالحاجة، وهم يعلمون أن شعبهم محاصرٌ ومضيقٌ عليه، وأنه يحارب ويعاقب، ويؤذى ويحاسب، ويخنق ويقتل، لأنه شعبٌ مقاوم، احتضن المقاومة، وصبر على البلاء، واحتمل العذاب، ولم يجأر بالصراخ، ولم يشكُ ولم يضجر، ولم يعب ولم يصرخ، ولم يتخلَ عن ثوابته، ولم يتنازل عن حقوقه، بل بقي صامداً رغم الجوع، صلباً رغم البلاء، واقفاً رغم محاولات الثني والاخضاع، فلا الفقر أقعده، ولا سيول الأمطار أغرقته، ولا البيوت المهدمة أخرجته، ولا البرد والجوع قد غيره، بل بقي كما هو بأسماله البسيطة، وأجساده العارية، وبيوته التي تسقفها السماء، وظروفه الصعبة البئيسة، وجيوبه الخاوية الفقيرة.
هذا رئيس سلطةٍ، يشرف على حكومةٍ، ولديه مؤسسات وعنده القرار، ويتصدر باسم الشعب ويتكلم باسمه، ويطوف على العالم رافعاً قضيته وحاملاً همومه، ويتلقى المساعدات من أجلهم، ويجمع التبرعات لراحتهم، ويصله الدعم ليخفف عنهم، إلا أنه يقرر أن يجوع شعبه، وأن يحرم آلاف الأسر من رواتبهم، وأن يجردهم من حقوقهم، وأن يجمد رتبهم، ويقصيهم من مراكزهم، لأنهم يعارضون سياسته، ولا يوافقون على منهجه، وقد كان حرياً به أن يكرمهم ويكافئهم، وأن يحسن إليهم ويجزل العطاء لهم، وأن يكون رفيقاً بهم وحنوناً عليهم، بدلاً من أن يكون هو والعدو عليهم، سيفاً مسلطاً، وغولاً متربصاً، يحرم الأطفال من حليبهم، والمرضى من دوائهم، والفقراء من كسرة خبزهم، والمتعففين من ستر أنفسهم وحماية أسرهم.
وذاك رئيس مكتبٍ سياسي، لا يختلف في كثيرٍ عن رئيس السلطة، ولا يتميز عنه في سياسته، فهو يغتصب حقوقاً، ويحرم الكثير من مستحقاتهم، في الوقت الذي يغدق فيه على آخرين، ويسبغ من الخيرات المؤتمن عليها على الكثيرين، ممن لا يستحقون ولا يعملون، ولا يعطون ولا يضحون، وليست لهم سابقة ولا عندهم ما يقدمونه، إلا أنهم يحبونه ويوالونه، ويؤيدونه ويمجدونه، ويصفقون له ويهللون لقدومه، ويبشون له ويكذبون عليه، ولكنه تعلم كغيره أن يكون سيداً بجزرة، وعبداً بعصا، وصندوقاً بعبطٍ، ظاناً أنه خيرٌ وأفضل، ولكنه أسوأ وأبشع، وأكثر فساداً وأشد املاقاً، وإن ظن أنه يحسن صنعاً.
ألا فليعلم المسؤولون عن بيوت المال، والأمناء على عيونه وخزائنه، والمتحكمون بقراره ومصيره، أنهم ليسوا أكثر من عبيدٍ وخدمٍ لهذا الشعب، وأنهم لا يتميزون عنه بشئ، ولا يختلفون عن عامته في أصل، بل إن الشعب الذي قدمهم أفضل منهم، وأكرم نفساً منهم، وأصبر عليهم من أهل بيتهم، فليعدلوا ولينصفوا، وليعطوا ولا يحرموا، وليتواضعوا ولا يتعالوا ولا يتكبروا، ولا يظلموا ولا يعتدوا، ولا يحرموا ولا يعاقبوا، ولا يهينوا ولا يذلوا.
وليعلموا أن الشعب الذي صبر عليهم قد يثور عليهم، وقد يقلعهم من كراسيهم، ويخلعهم من مناصبهم، وينزلهم من صياصيهم، فهم قد اعتلوا هذه الأماكن باسم شعبهم، وتسيدوا نيابةً عنهم، وأصبحوا متحدثين باسمهم برضى الشعب وموافقته، فهم لا يفضلونه في شئ، ولا يتميزون عنه بحال.
فلا يغرنهم هذا الحال، ولا يظنون أنهم بما ملكوا من مالٍ ليس لهم، أنهم يستطيعون أن يذلوا قامة، أو أن يحنوا رأساً ما عرف يوماً الخنوع أو الخضوع، أو أن يسكتوا صوتاً اعتاد على الصدح بالحق والجهر به، ألا فليؤوبوا إلى رشدهم، وليعودوا إلى صوابهم، وليقلعوا عن سوء أفعالهم، وبؤس سياساتهم، وليستحوا من شيبتهم، وليخافوا من آخرتهم، وليتقوا الله ربهم في شعبهم، وفي الأمانة التي يحملون في أعناقهم، ولا ينسوا أن الله عز وجل كما أنه الرزاق المنان، فهو المنتقم الجبار.
مصطفى يوسف اللداوي