حذّرت الإدارة الأميركيّة من احتمال انهيار السلطة الفلسطينية إذا استمر حجز أموال العائدات الجمركيّة التي تجمعها إسرائيل، للشهر الثاني على التوالي، وهو الأمر الذي أدى إلى عجز السلطة عن دفع رواتب موظفيها. ويهدد هذا الأمر إذا استمر لأشهر أخرى من دون حلول بعواقب وخيمة، كانتشار الفوضى والفلتان الأمني، اللذين بدأنا نلمس بوادرهما، خصوصًا في قطاع غزة.
وقد سبق التحذير الأميركي تحذيرات مشابهة من قيادات عسكريّة وأمنيّة إسرائيليّة؛ نبّهت نتنياهو بأن وقف تحويل الأموال لا يخدم مصلحة إسرائيل الأمنية.
في هذه الأثناء، أطلقت قيادات من السلطة وأخرى من حركة "فتح" تصريحات تفيد أن الاجتماع القادم للمجلس المركزي لـ "منظمة التحرير"، المقرر عقده في بداية شهر آذار القادم، سيكون حاسمًا، وسيتخذ قرارات مصيريّة في ما يتعلق بالعلاقة الفلسطينيّة - الإسرائيليّة، على رأسها وقف التنسيق الأمني، وتحميل الاحتلال مسؤوليّة احتلاله، وما يعنيه ذلك من تسليم مفاتيح السلطة إلى الاحتلال صاحب السلطة الفعليّة.
إلّا أن الحكومة الإسرائيليّة لم تعر أي انتباه لكل ذلك، لأنها أولًا توظّف هذا الإجراء وسائر الإجراءات المتطرفة والعنصريّة التي تتخذها ضد الفلسطينيين لتعزيز فرص "الليكود" وأحزاب اليمين الأخرى في الفوز بالانتخابات القادمة. وثانيًا، لأنها تدرك أن هذه التهديدات التي تكررت مرارًا خلال السنوات السابقة ليست سوى غبار من دون أثر، وأن وقف التنسيق الأمني ليس من ضمن حسابات السلطة، لأنّها، ببساطة، ستكون من أشد المتضررين كما إسرائيل، وربما أكثر.
اطمئنان إسرائيل له ما يبرره، لأن السلطة لو كانت في وارد مواجهة حقيقية مع الدولة العبرية، فأول شروط الاستعداد وأهمّها ترتيب البيت الداخلي على المستويات والأصعدة كافة، خصوصًا لناحية إنهاء الانقسام واستـــعادة الوحدة الوطنيّة، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع تحوّل الانقسام الســـياسي والجغرافي إلى انفصال بين الضفة الغربيّة وقطـــاع غـــزة، وهو ما يتم السير نحوه بتــــسارع في ظل إصرار طرفي الانقـــسام على التمسك بشروطهما الفئويّة والفرديّة لتحقيق الوحـــدة، والتي تقوم على سعي كل منهما إلى التحكم بالقيادة أو القـــرار واحتــكار السلطة، أو التوافق على تقاســم ومحاصــصة ما بينهما.
كما أن الاستعداد للمجابهة يقتضي أساسًا إعادة بناء مؤسسات "منظمة التحرير" وتفعيلها، لأنها منذ توقيع "أوسلو" في حالة يرثى لها، حتى تعود قولًا وفعلًا المرجعيّة العليا والممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
إن الذي يفكر فعلًا بوقف التنسيق الأمني، وبالشروع في تقديم الدعاوى ضد إسرائيل على جرائم الحرب التي ارتكبتها في حربها على قطاع غزة، وعلى جرائم الاستيطان المستمرة والتي لا تسقط بالتقادم، وذلك عند سريان مفعول طلب الانضمام إلى محكمة الجنايات الدوليّة في نيسان القادم، لا يقوم بتوقيع "اتفاقيّة الغاز" مع إسرائيل لمدة عشرين عامًا وبقيمة مليارات الدولارات، ليكسر بذلك جدار المقاطعة للدولة العبرية الذي ازداد علواً في الأشهر الأخيرة، علماً أنه يشجع بلدانًا أخرى على خطوات مشابهة مثل الاْردن، الذي يشهد جدلًا صاخبًا حول اتفاقيّة الغاز المزمع عقدها مع إسرائيل، كما أنه يؤيد تبعيّة الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي.
إضافة إلى ما سبق، فإن الأنظار معلّقة لدى الرئيس والأوساط النافذة ـــ كما جرت العادة ـــ على الانتخابات الإسرائيليّة لعلهّا تؤدي إلى خسارة اليمين وفوز اليسار والوسط (الذي هو في الحقيقة يمين أيضًا)، بما يؤدي إلى استئناف المفاوضات والعمل على إيصالها إلى اتفاق يقيم الدولة الفلسطينيّة الموعودة، أو على الأقل يحافظ على الوضع القائم، ويحول دون تدهوره بشكل شامل. كما أن السلطة تراهن على أنّ حكومة نتنياهو، حتى في حال عودتها إلى الحكم مرة أخرى، لن تدفع بالأمور إلى حد الانهيار التام، بل تريد دائمًا وضع السلطة على حافة الهاوية حتى تبتزّها وتحصل منها على أكبر قدر من التنازلات.
يعني ذلك أن كل ما يجري هو لعب في الوقت الضائع بانتظار العودة إلى المفاوضات التي يُراد أن تكون اللعبة الوحيدة، برغم أنها لعبة قاتلة للفلسطينيين وقضيتهم.
لقد نشأت السلطة تنفيذًا لاتفاقيّة تسمح بإقامة حكم ذاتي، وبالتالي فقد كانت عبئًا على الشعب الفلسطيني منذ البداية. الجديد في الأمر أن الغالبية الساحقة باتت تدرك ذلك، ومن كان يتوقع أنّها خطوة على طريق إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينيّة حقيقيّة، صدمته الحقائق التي أقامتها الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة (اليمينيّة والوسطيّة واليساريّة)، وجعلت إمكانيّة إقامة الدولة أبعد وأبعد.
في هذا السياق، وبدلًا من استمرار التعلّق بأذيال "اتفاق أوسلو" الذي قادنا إلى الكارثة التي نعيشها، من خلال التوهم بإمكانية أن يقود إلى الدولة، وبدلًا من استخدام المصالحة وإستراتيجيات التدويل والمقاومة الشعبيّة والمقاطعة والتهديد بوقف التنسيق الأمني وتسليم مفاتيح السلطة للاحتلال كتكتيكات للضغط من أجل إحيائه والعودة إلى "جنة" المفاوضات، لا بد من اعتماد مسار جديد مختلف جذريًا، يركز على الكفاح لتغيير موازين القوى، لكي يصبح الاحتلال مكلفًا لإسرائيل ومن يدعمها.
وفي إطار المسار الجديد، يجب إعادة النظر بطبيعة السلطة وشكلها ووظائفها والتزاماتها، لتصبح سلطة تخدم البرنامج الوطني وأداة من أدواته. لا يعني ذلك أن تتحول حتماً إلى سلطة مقاومة، بل عليها أن تكون سلطة مجاورة للمقاومة لا أداة لمحاربتها، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى انهيار السلطة وليس إلى حلها. فهي قد تنهار في أتون المواجهة التي ستنشب مع الاحتلال، الذي لن يقبل تغيير موقع السلطة ودورها. ولكن حينها، ستتولى المنظمة قيادة الشعب ونضاله بعد إعادة بناء مؤسساتها، بحيث تضم مختلف ألوان الطيف السياسيّ. كما أن الشعب المؤمن بعدالة قضيته وتفوّقها الأخلاقي والمصمم على الكفاح من أجل حقوقه، سيكون قادرًا على ابتداع أشكال جديدة تؤمّن وجودَه واحتياجاته بدلًا من السلطة المنهارة.
لقد كان وضع القضيّة الفلسطينيّة أفضل قبل إقامة السلطة، ومن المرجح أن يكون أفضل بعدها، في حال تحوّلت إلى سلطة تخدم الشعب وكفاحه الوطني التحرري.
بقلم/هاني المصري