في السابع عشر من ديسمبر الفائت أعلنت محكمة الاتحاد الأوروبي عن شطب اسم حركة حماس من قائمة المنظمات الإرهابية، مصححة خطأ تاريخيا ارتكبته عام 2003 أيام تصاعد اليمين الأوروبي، وإعلان الرئيس الأمريكي جورج بوش الحرب على الإرهاب، الذي تبنى حرفيا رواية أرييل شارون في تحويل المقاومة الفلسطينية الشرعية ضد الاحتلال إلى إرهاب ذميم. وفي 28 فبراير الماضي أعلنت محكمة "الأمور المستعجلة" في القاهرة أن حركة حماس تنظيم إرهابي، بعد شهر تقريبا من قيام محكمة مصرية أخرى بتصنيف كتائب القسام فصيلا إرهابيا. لم يكن أحد يتوقع أن يصل الإسفاف القضائي والإعلامي في مصر إلى هذا المستوى الهابط خلقيا وقانونيا وسياسيا، حيث تقف مصر (الرسمية على الأقل) إلى جانب إسرائيل وأمريكا بتجريم المقاومة الفلسطينية وتصنيفها حركة إرهابية، وهي التي خاضت أربع حروب منذ عام 2006 وتحت ظل ظروف إعجازية بعد فرض الحصار الشامل برا وبحرا وجوا على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ عام 2007. لقد أصبح التطاول على الشعب الفلسطيني بكامله وقضيته العادلة موضــــوعا مفضلا لأبـــواق الإعلام في مصر، لدرجة التحريض علنا على ضـــرب غزة أثناء عودة الطائرات من درنة.
كنا نعتقد أن الأمور ستبقى في دائرة التحريض الإعلامي، لكن التمادي على استهداف الفلسطينيين، شعبا ومقاومة وقضية عادلة، وصل القضاء الآن، فبدأوا يجرمون كل من يرفض الاستسلام الذليل لإملاءات إسرائيل، ويعملون على فرض الموت البطيء على مليوني فلسطيني من سكان القطاع بحجة الإرهاب.
لقد تعرضت غزة منذ 2008 إلى ثلاث حروب عدوانية شنتها إسرائيل ضد القطاع المحاصر برا وبحرا وجوا. ومن المفيد أن نراجع هذه الحروب ونتعرض للموقف المصري من تلك الحروب الثلاث، التي وقعت أثناء تولي الرئاسة المصرية لثلاثة رؤساء مختلفين وهم مبارك ومرسي والسيسي. وباستعراض بسيط للمواقف والتصريحات والمسلكيات للرؤساء الثلاثة خلال تلك الحروب، نستطيع أن نتعرف على الموقف الحقيقي للنظام من القضية الفلسطينية بشكل عام، وقطاع غزة بشكل خاص، ونتعرف كذلك كيف تصرفت القيادات المصرية الثلاث من هذه الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة.
أولا: عملية الرصاص المصبوب/عملية الفرقان من 27 ديسمبر 2008 إلى 18 يناير 2009 (22 يوما)
الرئيس المصري: حسني مبارك- رئيس الوزراء الإسرائيلي: إيهود أولمرت.
الخسائر: 1417 شهيدا و5303 جرحى. ومن الجانب الإسرائيلي 10 عسكريين و3 مدنيين و518 جريحا
الموقف المصري: قامت الحكومة المصرية برعاية اتفاقية هدنة بين إسرائيل وحماس بتاريخ 19 يونيو 2008. التزمت فصائل المقاومة حرفيا بالهدنة إلى أن قامت إسرائيل، وبدون أي استفزاز، مساء 4 نوفمبر بقتل ستة من قيادات حماس، ما أدى إلى إعلان حماس نهاية الهدنة، وهو ما كان متوقعا بل مقصودا. قامت وزيرة الخارجية الإسرائيلية، تسيبي ليفني، بزيارة للقاهرة يوم 26 ديسمبر وعقدت مؤتمرا صحافيا مع نظيرها المصري أحمد أبو الغيط، وكانت تتكئ على يده وتبتسم وهي تهدد باجتياح غزة وتتوعد بسحق المقاومة. قالت في المؤتمر الصحافي: "إن إسرائيل لن تسمح بعد الآن باستمرار سيطرة حماس على غزة، وإن إسرائيل ستسعى إلى تغيير الوضع في القطاع، كفى يعني كفى، والوضع سيتغير". وقد اندهش العالم حين بقي أبو الغيط، صاحب التهديد المعروف بكسر أرجل الفلسطينيين، صامتا بدون أن يحاول أن يطلب احترام المكان الذي كانت تتكلم منه ليفني. وقد كشفت صحيفة "هآرتس" عن الحصول على إقرار مصري باستهداف حماس، وقالت صحيفة "معاريف" إن عمر سليمان أبلغ جلعاد "أن إسرائيل محقة في أي خطوة تتخذها ضد حماس".
ابتدأ العدوان على غزة صبيحة 27 ديسمبر وتبين للقاصي والداني أنها حرب إبادة، تطال المدنيين أكثر مما تلحق الأذى بقوات المقاومة. وقد بدأت الفصائل الفلسطينية تطلق مقذوفاتها البدائية التي يطلق عليها "خطأ" صواريخ، والتي لم تقتل أحدا لكنها استطاعت أن تصل إلى مدى أبعد مما كان معروفا، مما أثار الذعر لدى الإسرائيليين وأدى بقطاعات واسعة من السكان إلى الملاجئ.
دعت قطر إلى قمة عربية طارئة، ولكن أبو الغيط عمل على إفشالها بثني العديد من الدول عن الحضور كي لا يتوفر النصاب المطلوب لعقدها وتبجح أبو الغيط بذلك قائلا "أيوه – مصر هي اللي أفشلت قمة الدوحة". أصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانا يدين استهداف المدنيين، لكنها منعت المظاهرات، وعندما كان الشارع المصري يغلي على وشك الانفجار سمحت لمظاهرة داخل إستاد القاهرة. أبقت مصر معبر رفح مفتوحا لنقل المصابين والجرحى إلى المستشفيات المصرية، لكنها لم تسمح للمساعدات الخارجية أن تدخل عبر المعبر. كان النظام يغلق بعض الأنفاق، لكنه كان يغض الطرف عنها إذ أنها تحولت إلى مصدر دخل كبير للجانبين المصري والفلسطيني.
بعد أن فشلت إسرائيل في لجم مقذوفات المقاومة، اعتمد مجلس الأمن القرار 1860 بتاريخ 8 يناير 2009، الذي دعا إلى وقف إطلاق النار ورفع الحصار وإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة بدون إعاقة.
ثانيا: عملية عامود السحاب /حجارة سجيل ـ من 14 إلى 22 نوفمبر 2012 (8 أيام)
الرئيس المصري: محمد مرسي ـ رئيس الوزراء الإسرائيلي: بنيامين نتنياهو
الخسائر: 105 شهداء و971 جريحا ـ وقتل جنديان إسرائيليان وجرح 20 جنديا.
اغتيل القائد العسكري أحمد الجعبري يوم 14 نوفمبر، واعتبر ذلك خرقا للهدنة وابتدأت مباشرة العمليات العسكرية.
الموقف المصري: قام الرئيس مرسي بسحب السفير المصري من تل أبيب، لأول مرة منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ودعا لعقد اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب ومجلس الأمن الدولي. وأعلنت مصر فتح معبر رفح على مدار الساعة، والسماح لجميع المساعدات الإنسانية والطبية بالدخول إلى غزة، وفتحت مستشفيات العريش للجرحى الفلسطينيين. سمحت الحكومة للمظاهرات الشعبية والفعاليات الجماهيرية للتعبير عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فانطلقت المظاهرات الشعبية الألوفية في كل مكان. وقد بعثت الحكومة المصرية رئيس الوزراء هشام قنديل على رأس وفد كبير للتضامن مع غزة، مما أحرج العديد من الدول العربية، وبدأت الوفود الرسمية والشعبية تتوافد على غزة. وقد أعلن الرئيس مرسي "أننا لن نتخلى عنكم يا أهل غزة" لقد حركت حرب الأيام الثمانية الأمة كلها، وبدأت كرة الثلج تكبر وتتدحرج، مما سبب ذعرا حقيقيا في إسرائيل، وتأكدت أن الأمة العربية بعد انطلاقة الربيع العربي تختلف عن أيام المخلوع ورفاقه. اتصالات هيلاري كلينتون بالقاهرة أدت على وجه السرعة إلى إعلان وقف إطلاق النار والعودة إلى التهدئة وتنفيذ القرار 1860. بعد وقف إطلاق النار تدفقت الجماهير والمسؤولون الرسميون ووفود من البرلمانات العربية والصحافة إلى قطاع غزة بدرجة غير مسبوقة.
استخدمت فصائل المقاومة قذائف جديدة من نوع فجر ـ 5 وصواريخ غراد وصواريخ قسام بأنواعها. تبين أن المقاومة طورت ترسانتها العسكرية. تزامنت الحرب مع حالة النهوض العربي الذي مثلها الربيع العربي في بداياته الواعدة. كان لا بد إذن أن يحدث تغيير ما لوقف هذا الزخم الذي تمحور حول التضامن الشعبي مع قطاع غزة. المعبر بقي مفتوحا طوال الحرب وبعدها، تتدفق منه المساعدات الإنسانية والوفود الزائرة. الأنفاق مفتوحة وعددها في ازدياد.
ثالثا: عملية الجرف الصامد/العصف المأكول- من 8 يوليو إلى 26 أغسطس 2014 (50 يوما)
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ـ رئيس الوزراء الإسرائيلي ـ بنيامين نتنياهو
الخسائر: 2143 شهيدا من بينهم 540 طفلا و 11128 جريحا. مقابل 68 جنديا وأربعة مدنيين وطفل واحد وعامل أجنبي.
الموقف المصري: منذ قيام الانقلاب بتاريخ 3 يوليو ووضع قيادات الإخوان المسلمين وناشطي ثورة 25 يناير في السجن، أغلق معبر رفح بشكل كامل تقريبا ولم يفتح إلا نادرا لتمرير الأجانب أو حملة الجنسية المصرية، أو بعض الحالات النادرة من المرضى. بدأت عملية شيطنة حماس وقطاع غزة وربطه بحركة الإخوان المسلمين وتوجيه التهم مباشرة لبعض أفراد من حماس باستهداف الجيش المصري. بدأ الإعلام التحريضي يدق ليل نهار على هذا الوتر، حتى بدا للمواطن العادي أن غزة دولة عظمى تهدد الأمن المصري. لقد كان الجو مهيئا تماما لعدوان إسرائيل غير المبرر، إلا استغلالا لانشعال العرب في حروبهم البينية وتصميم دولتين من دول الخليج على استئصال كل ما يمت للثورات والمقاومة والانتخابات الحرة الشريفة بصلة كي يبقى نظام العائلات أو العسكر ماسكا بخناق هذه الأمة.
بيان وزارة الخارجية المصرية وصف حرب الإبادة على غزة بأنها "عنف متبادل" وطرح مبادرة بإعلان هدنة رفضتها كافة الفصائل الفلسطينية، واعتبر النظام ذلك حجة لإدارة الظهر ولسان حاله "دع تركيا وقطر تنقذان قطاع غزة".
بعد الصمود الأسطوري للمقاومة تم قبول وقف إطلاق النار بشروط المقاومة، التي تمثلت بوفد موحد، لكن الأمور بعد الحرب عادت أسوأ من ذي قبل. فقد تم تدمير نحو 1200 نفق كانت تعتبر شريان الاقتصاد البديل لغزة المحاصرة. وتم تجريف كل المناطق المأهولة بالسكان بعمق كيلومتر من حدود القطاع وبقي المعبر مغلقا بشكل شبه دائم. لقد تحول قطاع غزة الآن بتعاون مصري إسرائيلي إلى أكبر سجن بشري في عالم اليوم.
وكانت الخطوتان التاليتان، تصنيف كتائب القسام وحركة حماس جماعتين إرهابيتين متوقعتين في ظل التحريض الإعلامي غير المسبوق. ولم يبق الآن إلا العدوان المسلح على غزة من قبل نظام يحاول أن يفك عزلته بتصدير أزماته إلى الخارج. فهل سيفعلها النظام؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة أو التسريبات المتلاحقة.
٭ أستاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك
د.عبد الحميد صيام