أمراض عربية… لا نعرف كيف نختلف

بقلم: فايز رشيد

من الطبيعي ان يختلف البشر في وجهات نظرهم، ذلك كان منذ بدء الخليقة، وهو موجود وسيظّل ما بقيت حياة، ومادام هناك ناس يعيشون على وجه البسيطة.
غير أن من اللامعقول، أن يصل الاختلاف إلى حد الإسفاف في كيل الاتهامات والأخرى المضادة بين شخصين يحملان وجهتي نظر مختلفتين، وأن تجري شخصنة هذا التعارض للهجوم على ذات الآخر، في محاولة تسفيهه وتحطيمه، والنيل منه ومن شخصه ومعلوماته.. إلى غير ذلك من أشكال بعيدة كل البعد عن احترام الرأي والرأي الآخر ومقولة (الاستعداد للتضحية بـ «الانا» في سبيل «الأنت»)، بما يعمل على تحريف ثقافة الاختلاف، وضياع المعلومات، هذا إن وجدت، وبقاء الصراخ كظاهرة، والشتم كحقيقة، والتشنج كمشهد ميلودرامي مقيت وكريه، بعيد عن العقل والمنطق والحضارة، واصول الاختلاف، بل يقع خارج إطار المنطق والمكان والزمان أيضا
تترافق هذه المسألة، مع قضية أخرى، وهي تقييم الآخر، فإذا كنا نحب إنسانا، نراه في صورة نقية ناصعة البياض بعيدة عن أي خلل، وإذا كنا نكرهه لموقف شخصي، على سبيل المثال، نراه أسود بعيدا عن أي صفة إيجابية في ذاته، أو في آرائه، فإما ابيض وإما أسود بعيدا عن التقييم الصحيح، الذي يقّر بالإيجابيات والسلبيات، وهي الموجودة بالطبع في مطلق الانسان. أي أننا ننفي وجود اللون الرمادي. الغريب هو انقلاب مواقف البعض منّا مئة وثمانين درجة بالنسبة لتقييم ذات الشخص، نتيجة لخلاف صغير في الرأي معه فتنقلب صورته في ذات كل منّا من صديق حميم إلى عدو غشيم وإلى شيطان رجيم
مناسبة القول، ما نقرأه في بعض الصحف من لغة حوار شوارعية بذيئة، وما نشاهده في بعض برامج الفضائيات من أساليب اختلاف ممجوجة ومبتذلة، لا يستفيد منها المشاهد شيئا، بل هي أقرب إلى مصارعة الثيران، منها إلى لغة الحوار البشري العَقلاني، خاصة بعد (حقن) طرفيها بعناصر الإثارة واستعداء كل طرف على الآخر. مؤخرّا زاد استعمال حتى الأحذية بين المتحاورين على الفضائيات، أحدهم لم يكتفِ برميِ زميله (المُفترض أنه كذلك) بالحذاء، بل سحَبَ عليه المسدس، ولولا (فزعة) مقدّم البرنامج لربما أطلقَ عليه الرصاص وقتله… لماذا؟ لأنه يختلف مع في الرأي، ثقافة ما بعدها ثقافة! تصوّر أنك إذا دُعيت لحوار على إحدى الفضائيات العربية، فمن الضروري لك ارتداء سترة واقية من الرصاص وخوذة للرأس، وسدّادة للأذنين من أجل حماية السمع لديك ربما من احتمال تفجير قنبلة أو استعمال قذيفة مدفع، أو ربما إطلاق صاروخ. تصوّر أنك بحاجة إلى البحث عن أحذية مستعملة لاستعمالها في الحوار(فالأحذية البالية بمعانيها أكثرُ وقعا من حيث التأثير)، فلربما يقوم محاورك برمي حذائه في وجهك، ومن أجل أن لا تجعله ينتصر (وهذا عيب في حقّك) عليك أن ترميه بحذائين وذلك (حتى تردّ الصاع صاعين) و( ما فيش حدا أحسن من حدا). 
ندرك أن عامل (الإثارة) هو وحده، الذي يتحكّم في نشر أو مشاهدة مثل تلك الحوارات، التي لا تعود بفائدة لا على المشاهد، الذي أصبح يترقّب الطوشة ليتفرّج عليها فقط، من دون أي انتباه للحوار، فقد أصبح لا يعنيه وغير مهتم بالمعلومة، ولا حتى على مقدّمي هذه البرامج، إلا إذا كانوا يعتقدون بأنهم يؤسسون لمدرسةً في الإسفاف؟ وإلا إذا كانوا يعملون على ترسيخ قواعد هذه المدرسة وشخصيا لا أعتقد أن هناك مثل هؤلاء البشر موجودين، وإلا إذا كانوا يعيشون الهاجس الشخصي وحب الاشارة إليهم بالبنان، بعيدا عما يدّعونه من أهداف. تلك المقالات وهذه البرامج لن تعود بأي فائدة لا على فضائياتها، ولا على المشاهدين بالطبع.. وهي ان استطاعت خداع كل الناس، بعض الوقت، او بعض الناس كل الوقت، فلن تستطيع خداع كل الناس، كل الوقت، والأجدر بالقائمين على تلك الصحف وهذه الفضائيات مراجعة النفس في مدى فائدة استمرار هذا النمط الإسفافي في الحوار، الذي استنفد اغراضه (الثانوية) منذ زمن طويل وأصبح عبئا ليس على الفضائيات فحسب، وإنما على المشاهدين ايضا
الاختلاف هو ثقافة، والاسفاف هو ايضا ثقافة (للأسف) والأخير هو حجة من لا يملك المعلومات، وهو دليل ضعف اكثر منه عنصر قوّة، وإلا كان الردّاحون في التاريخ هم اكثر من يملك المعلومات وهذه المسألة مجافية للحقيقة.
المصابون بعقدة النقص هم الاكثر علوّا في أصواتهم، وهم الاكثر ادّعاء بامتلاك الحكمة والحقيقة المطلقة، وهم ليسوا كذلك, والمُطلق بالطبع هو خارج القدرة الانسانية، فـ»جلّ الذي لا يسهو ولا يخطئ. هؤلاء هم المثقفون الديكتاتوريون، الذين قال عنهم المفكر العربي محمد عابد الجابري «يحتوون في أوساطهم من هم أكثر قمعا إن تولوا المسؤولية من اكثر الديكتاتوريين تطرفا»، ولذلك تراهم يضيقون ذرعا بالنقد الذي يوجّه اليهم… مع العلم أن واحدا من أعظم رجالات التاريخ العربي ـ الاسلامي، وهو الخليفة العادل (الفاروق) عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، كان وهو خليفة المسلمين يفتح صدره للنقد من أي كان من عظماء القوم ومن أبسطهم، وهو لم يصغر بذلك، بل ازداد علوّا وعظمة، ألم يئن الأوان لبتر عملية الترويج لثقافة الإسفاف في الاختلاف؟

٭ كاتب فلسطيني

د. فايز رشيد