الحيادُ صفةٌ عزيزةٌ، وقد أضحت نادرة، وهي إيجابيةٌ بالقطع، وحسنةُ النتائج في الغالب، تحمي وتقي، وتنقذ وتنجي، وهي سلوكٌ صعب، يتناقض مع الفطرة، ويتعارض مع طبائع الإنسان، الذي هو بطبيعته متدخلٌ حشور، يحب أن يدس أنفه في كل مكان، ويحشر نفسه فيما لا يعنيه، ويتنطع لما لا يقوى عليه، ويتصدر لما ليس له، ويتدخل في شؤون الآخرين دون أن يسألوه المساعدة، أو يطلبوا منه العون، رغم أن الحياد خُلق، وعدم التدخل في شؤون الآخرين فضيلة، إلا أن الإنسان عدوٌ لكثيرٍ من الفضائل.
لكن قد لا يملك الإنسان حرية القرار، ولا خيار الحياد، فيضطر أن يكون طرفاً مع حليفه، أو عضداً لمن يخاف منه، وسنداً لمن لا يتفق معه، فينحاز في موقفه، ويعلن وقوفه وتضامنه، وتأييده ومساندته، وهذا أمرٌ لا يقوم به إلا الضعفاء الجبناء، الذين يخشون سطوة القوي وعقاب القادر.
وقد لا يستطيع الإنسان لظروفٍ ما الاحتفاظ بصفة الحياد، والتمسك بسياسة النأي بالنفس، وإن كانت هي السياسة الذهبية، ولا يُسمح له بأن يبقى بعيداً، يشاهد ويتابع ولا يتدخل ولا يتأثر، إذ قد يُجر أحياناً رغماً عن أنفه، ويجبر على الانغماس والتدخل، على غير إرادةٍ منه ورغبة، فلا ينفعه تمنعه، ولا تجدي سياسة النأي بالنفس التي يعتمدها ويحرص عليها، مخافة أن يتهم أو أن يشمله العقاب، ويحل عليه الغضب وبه السخط، وينزل بساحته البلاء، وقد سبق جورج بوش الابن في حربه على ما يسمى بـــ"الارهاب" بهذا المعنى فقال "من ليس معنا فهو علينا"، وهو ما يجعل الحياد قراراً صعباً لا يقوى عليه الجميع، ولا يستطيع الالتزام به الكل، ولا يقوى على تحمل تبعاته سوى الأقوياء.
ومع ذلك فإن على الفلسطينيين رغم ضعفهم أن يكونوا دوماً على الحياد فيما يتعلق بالشؤون الداخلية للدول، العربية والإسلامية وغيرها، فلا يتدخلوا في شؤون أي دولة، ولا يكونوا جزءاً من أي معادلة داخلية، أو تركيبةٍ طائفية، ولا يشتركوا في لعبة التجاذب السياسي، ولا يساهموا في حملة، ولا يشاركوا في حربٍ، ولا ينظموا إلى تحالفٍ، ولا يكونوا عوناً للأنظمة على شعوبها، ولا عيوناً لهم على مواطنيهم، ولا ينخرطوا في صفوف الشعب، متظاهرين أو مقاتلين، ضد الأنظمة والحكام، وإن كان ظلمهم بادياً، وجورهم عالياً، إلا أن هذا لا يبرر لهم أن يصطفوا، أو يبيح لهم أن يشتركوا في المعارك الداخلية، لصالحِ فريقٍ ضد آخر، فعليهم أن ينأوا بأنفسهم حقاً، ويبتعدوا فعلاً، ويكونوا على الحياد التام، وألا يقبلوا أن يكونوا في ميزان أحد، أو ورقةً في يد أي فريق، مهما كانت المغريات أو العواقب.
قد لا يروق للبعض هذا الموقف الذي يأتي في ظل الأزمة اليمنية، والتحالف العربي الجديد لإخضاع البعض لصالح آخرين، والذي يبدو مقبولاً عند بعض العرب وضرورة، كونه يصد خطراً، ويدافع عن الهوية والوجود، ويحد من انهيار الدولة، ويحمي الشرعية، ويمنع التدخلات الخارجية، ويحول دون توسيع الأزمة وتدويلها، ويمنع ارتهان البلاد وتغيير هويتها وثقافتها، فضلاً عن أنه يأتي ضمن مهام جامعة الدول العربية، وتفعيلاً لأحد قراراتها النائمة بالدفاع العربي المشترك، وهو حلمٌ عربيٌ قديمٌ كان من الصعب تحقيقه، ولكنه جاء أخيراً في شكل عاصفة حزمٍ قويةٍ.
بينما يعارضه آخرون ويرونه فيه تدخلاً خارجياً، ومحاولة لإملاء المواقف بالقوة، وتغيير الأوضاع بقوة السلاح، في الوقت الذي ينكرون فيه اتهامات التدخل، ومساعي السيطرة والهيمنة، ومحاولات التغلغل والاختراق، ويرون أن التدخل العسكري العربي في اليمن سيقود حتماً إلى مزيدٍ من الدم والقتل، وسيتسبب في تمزيق الدولة وتفتيتها وانهيار مؤسساتها، ولن يؤدي إلى حل، بل سيخلق مقاومة، وسيفجر معارضة مسلحة، تغذي العنف، وتعمق الأزمة، وتباعد فرص الوفاق والخلاص، وسيتحمل رواد وأطراف عاصفة الحزم عواقب قرارهم ونتيجة عملياتهم الحربية، التي قد تجعل من اليمن أكثر من يمنين، شمالي وجنوبي وقحطاني وخضرموتي.
على جميع الأطراف أن يقبلوا بالحياد الفلسطيني، وأن يرحبوا به ويشيدوا بحكمته، وألا يطالبوا الفلسطينيين بأي موقفٍ مؤيدٍ أو معارض، مساندٍ أو ممانع، فنحن لا نستطيع أن نساهم بشئ، إذ لا طائرات عندنا ولا دبابات، ولا سفن لدينا ولا بوارج حربية تحت تصرفنا، فلا نتدخل برأي، ولا نكون مع فريقٍ ضد آخر، وإن كان لنا رأي وموقف فإننا نحتفظ به لأنفسنا، ولا نوظفه مع أحدٍ ضد آخر، فقد علمتنا الأزمات القديمة أن خلافات العرب تزول، والحقد على الفلسطينيين يدوم ولا يزول، ونحن أضعف من أن نحتمل المزيد من الضرائب، أو أن ندفع ثمن المواقف، ونؤدي عاقبة القرارات السياسية.
الفلسطينيون ليسوا كغيرهم من الشعوب العربية، فلا دولة لهم ولا كيان، ولا حكومة تجمعهم، ولا نظام ينسق مواقفهم، وإنما أكثرهم شتاتٌ مبعثر، وضيوفٌ لاجئون، يقيمون في بلاد اللجوء، ويتوزعون في الفيافي والقفار، يحملون بطاقة اللاجئ البيضاء، فلا يتمتعون بموجبها بأي ميزة كالتي يتمتع بها المواطنون، وإن كانوا يعيشون في بعض الدول العربية بكرامةٍ ويلقون فيها حسن معاملة، لخلقٍ في إخوانهم، ولقوانين تحسن إليهم، وتتسع لهم ولا تضيق عليهم، فإنهم في بلادٍ عربية أخرى يعانون ويضهدون، ويحرمون ويعاقبون، فلا سماحة خلقٍ تتسع لهم، ولا قوانين إنسانية تستوعبهم، ولا أمن عامٍ يرأف بهم، أو ييسر دخولهم وإقامتهم.
على كل الأطراف أن تدرك أن الورقة الفلسطينية حساسةٌ جداً، فلا ينبغي اللعب بها، أو توظيفها أو استغلالها، أو استخدامها في غير مكانها، واهدارها في غير موقعها، فمكانها الصحيح هو في فلسطين، في مواجهة العدو الصهيوني، وقتاله ومقارعته بكل السبل الممكنة، فهذا هو ميدان الفلسطينيين، وساحة جهادهم، وإن كنا نقدر أن شعوب أمتنا العربية لم يقصروا معنا، ولم يتأخروا يوماً عن نصرة قضيتنا، ومساندة شعبنا، فقد قاتلوا إلى جانبنا، واستشهدوا من أجل قضيتنا، وسجنوا لمقاومتهم، ومنهم من كان رمزاً لمقاومتنا، واسماً لكتائبنا، وهو سوريٌ جاء إلى فلسطين مقاتلاً، وعلى أرضها استشهد.
ينبغي على القيادة الفلسطينية، وقادة الأحزاب والقوى والفصائل، أن يكونوا حذرين في مواقفهم، وحكماء في سياساتهم، وعقلاء في تصريحاتهم، فلا يتهوروا ولا يتورطوا، ولا يتنطعوا ولا يتطوعوا، ولا يقحموا أنفسهم ولا يزجوا قضيتهم فيما لا يحمد ولا يرجى من خاتمته الخير، فلا يعلنوا موقفاً يحسب عليهم، ويسجل في صحيفة شعبهم، ويجعل منهم طرفاً في المعركة، وفريقاً في القتال، بل إن التجارب السابقة تدعوهم إلى التفكر والتدبر، والتعقل والتبصر، فلا يوردوا شعبهم موارد الهلاك، ولا يساهموا في تشتيته أكثر، ولا يكونوا سبباً في فرقتهم وضياعهم، إذ يكفينا ما وجدنا في الكويت والعراق، ومن قبل في الأردن ولبنان، ومن بعد في مصر وسوريا.
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي