رغم أن الغموض ما زال يكتنف بعضاً من تفاصيل الحرب الإسرائيلية الثالثة على غزة، التي جرت في تموز العام الماضي، ورغم أن كثيراً من أسرار تلك الحرب لم يتكشف بعد _ منها على سبيل المثال المصير الحقيقي للجنديين الإسرائيليين هدار جولدن وشاؤول آرون، اللذين لم يعرف مصيرهما خلال تلك الحرب، واحد في الشجاعية وآخر في رفح _ إلا انه يمكن القول بأن تلك الحرب دفعت كلا الطرفين _ إسرائيل وحماس _ لمراجعة إستراتيجيتهما العسكرية، والتي ربما كانت احد أسباب إطالة أمد الحرب لأكثر من خمسين يوماً!
منذ العام 1996، وحركة حماس تقوم بين فترة وأُخرى بتغيير نوعي في سلاحها الاستراتيجي، فبعد أن اعتمدت، قبل وصولها للسلطة، وقبل سيطرتها على غزة، على العمليات الاستشهادية في عمق المدن الإسرائيلية وراء الخط الأخضر، والتي كانت سببا في تضاعف نفوذ الحركة في الشارع الفلسطيني، وكانت سبباً رئيسياً لفوزها في انتخابات العام 2006، أخذت منذ انسحاب إسرائيل من قطاع غزة عام 2005 بتركيز الجهد على تصنيع الصواريخ، إلى أن توفرت لها قوة صاروخية، تجاوزت العشرة آلاف صاروخ قصير ومتوسط المدى، والتي كانت تعتبرها سلاح الردع، في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة، والتي كانت أيضا ترد بإطلاقها على البلدات الإسرائيلية فيما يسمى بغلاف غزة، خلال الفترة، بشكل متقطع بين الحروب الثلاثة ( 2008 / 2009، 2012، 2014 )، أو بشكل متواصل وكثيف خلال تلك الحروب على تلك الاعتداءات، ثم ومع شن مصر حربا على الأنفاق بين غزة ورفح المصرية، ودفع "حماس" ثمناً باهظاً لسقوط الأخوان في مصر، اقتصادياً وعسكرياً، إضافة للثمن السياسي بالطبع، وبالتالي مع انعدام _ تقريبا _ فرصة التعويض عما تفقده عادة خلال الحرب مع إسرائيل، من قوتها الصاروخية، إن كان بالتهريب أو بالتصنيع، لجأت إلى سلاح جديد هو سلاح الأنفاق !
بعد توقف الحرب العام الماضي، ومع تعثر عملية المصالحة وإعادة الإعمار، ومع نجاح مصر في التدمير شبه التام للأنفاق، وجدت "حماس" نفسها في ضائقة متعددة الأشكال، هناك ضائقة اقتصادية، تحاول تحميلها للسلطة الفلسطينية مقابل منحها السيادة الشكلية / الخارجية على قطاع غزة، من خلال مطالبتها بدفع مرتبات أكثر من 40 ألفا من عناصرها، وهناك ضائقة سياسية، تحاول التخفيف من وطأتها بالعودة لتعدد التحالفات ( من إيران لتركيا مرورا بقطر والسعودية )، وهناك ضائقة عسكرية، حيث انه مع تدمير معظم قوتها الصاروخية خلال تلك الحرب، وتعذر تهريب ما يعوضها، كذلك تعذر التصنيع بسبب استمرار عدم إدخال المواد خاصة الحديد منها لغزة، وجدت "حماس" ضالتها في أكثر من أمر : الأول تطوير القدرة الصاروخية، حيث يمكن تعويض الكم بالنوع، ولعل ما يعلن تباعا عن إجراء تجارب بهذا الخصوص، من خلال إطلاق الصواريخ في عرض البحر، دليل على هذا، كذلك الاعتماد على الأنفاق كسلاح استراتيجي جديد، وكذلك اعتماد بنادق القنص (شتاير) والتي يقال بان مئات، إن لم يكن آلاف البنادق من هذا النوع باتت لدى "حماس" في غزة.
رغم القوة الاستخباراتية الإسرائيلية، ورغم أن إسرائيل لم تعلن في بداية حربها الثالثة على غزة، الهدف الأمني المباشر لهذه الحرب، وربما كان هذا بدافع التمويه، إلا انه كان واضحاً مع مرور الوقت أن إسرائيل تسعى لتدمير ما أقامته "حماس" من أنفاق هجومية بين غزة والخط الأخضر الحدودي، خاصة من الجهة الشرقية مع إسرائيل، ولعل معارك الشجاعية، خزاعة، ورفح كانت دليلا على ذلك، كما أن توق "حماس" للدخول مع إسرائيل في حرب برية، بهدف إيقاع الخسائر البشرية في صفوف الإسرائيليين، بما في ذلك أسر جنود منهم، كان واضحا، وكان اعتراف الأخ خالد مشعل، خلال الحرب، ردا على التساؤلات حول عدم إيقاع الصواريخ قتلى في الجانب الإسرائيلي، بأن للصواريخ هدفا سياسيا، احد الأسباب التي دفعت "حماس" للتفكير جدياً في عدم الاعتماد طويلاً على القوة الصاروخية، أو على الأقل عدم الاعتماد عليها كسلاح وحيد، والتفكير بسلاح آخر.
منذ توقف الحرب الثالثة في أواخر آب من العام الماضي 2014، ورغم عدم دخول مواد الإعمار، وسباق التسلح الخاص بالأنفاق جار على قدم وساق بين حماس وإسرائيل، وقد رصد الإعلام أكثر من مرة، تفقد قادة "حماس" (إسماعيل هنية، محمود الزهار وفتحي حماد) لقواتهم العسكرية على الحدود الشرقية لقطاع غزة، وبعد أن انشغلت إسرائيل وشغلت الدنيا كلها معها، بالقبة الحديدية لمواجهة الهاون والصواريخ، باتت مشغولة الآن، بإقامة أول منظومة من نوعها في العالم في اكتشاف الأنفاق !
في المقابل فإن "حماس" تجاوزت فترة الحفر التقليدي للأنفاق، والتي تحولت من الجنوب، حيث رفح، إلى الشرق، لمواجهة إسرائيل، حيث أن "حماس" تدرك تماما بأنه لا أحد قادر على إسقاطها عسكريا غير إسرائيل. كل هذا يطرح التساؤل : لماذا ؟ وهل يمكن لغزة المنهكة والمعزولة أن تواجه إسرائيل بقوة السلاح وحسب ؟ أم أن هناك سلاحاً أهم من الأنفاق، هو الوحدة الوطنية، وتحصين القطاع ضد الفقر والعزلة والانغلاق، والاعتماد على الشعب بسلاح المقاومة الشعبية وهو سلاح أمضى من المجموعات العسكرية ومن الأنفاق والصواريخ وحتى من القنابل النووية، أم أن سباق التسلح هذا، إن صح التعبير، ما هو إلا فصل جديد من سعي الطرفين (حماس والليكود) لتحسين مواقعهما السياسية، كل على صعيده الداخلي؟!.
رجب أبو سرية
17 نيسان 2015