عمر الأنظمة العربية الحاكمة يزيد عن 60 سنة ، هذا إذا بدأنا التأريخ بـثورة 23 يوليو 1952 المجيدة التي قام بها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ورفاقه الضباط الأحرار ... تلك الثورة التي أطاحت بالنظام الملكي ، وطردت الاستعمار، وضربت مصالحه بتأميم قناة السويس . فحررت البلاد من قيود الاستغلال والتبعية . ولم تألُ جهدا في تصدير الثورة ومد يد العون والمساعدة لكثير من الدول العربية لنيل حريتها واستقلالها والنهوض بها من تحت ركام العبودية إلى حياة العزة والكرامة ، فدفعت مصر لأجل ذلك الأثمان الباهظة من الشهداء الأبطال من أبنائها ، ومن أموالها واقتصادها . وأحس المستعمرون خطر عبد الناصر عليهم وعلى مستعمراتهم ، وخشوا على أنفسهم أن يثير عليهم المزيد من سخط الشعوب العربية ، فخاطبوه بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى ، فلم يفلحوا في ثنيه عن منهجه الثوري ذي الوجه العروبي ، واستمر يؤلب الشعوب ويحضُّهم على تفجير الثورة في وجوه جلاديهم ، وضرب مصالحهم الحيوية أينما وُجدت ، واستشعرت بعض الأنظمة العربية نفس الخطر على عروشها من المد الثوري الناصري ، فتكالبت قوى الشر والعدوان على مصر العروبة ، واجتمعوا يأتمرون فيما بينهم مع العدو الصهيوني بعبد الناصر للإطاحة به ، فتلاحقت ضرباتهم الحاقدة من العدوان الثلاثي 1956 ، مروراً بحلف بغداد ، ثم انفصال سوريا وتقويض النواة الأولى للوحدة العربية 1961 إلى مستنقع اليمن بعد ثورته 1962 حتى هزيمة يونيه 1967 ، ثم ما كان من إحكام الحصار الاقتصادي واحتكار السلاح لتجويع مصر وإضعافها ، وتركيع عبدالناصر واستسلامه ، ولكن هيهات هيهات !!!.
ومرت السنون وتصالحت مصر مع إسرائيل ، وحققت إسرائيل باتفاقية كامب ديفيد 1978 نجاحات لم تستطع انتصاراتها العسكرية أن تحققها ، وكانت نتائجها وخيمة ، أولها : شق الصف العربي بالتباغض والتناحر، وكان ثانيها : تحييد مصر وإخراجها من ملعب الصراع العربي – الإسرائيلي ، كلاعب قوي ، بل من كابتن الفريق العربي إلى متفرج محايد يجلس على مدرجات الترسو ، ثم إلى وسيط يقف في نقطة الوسط بين اسرائيل وفلسطين ، وكان ثالـثها : تساقط الدول العربية في شَرك المصالحة والتطبيع مع إسرائيل .
مصر حماها الله ، ستبقى درع العرب وستبقى كنانة العرب مهما اعترى هذه الكنانة من عوامل التعرية اللاطبيعية . ولن ننسى – بل ما ينبغي لنا ولا لكل العرب حكومات وشعوبا أن ننسى – ما عانت مصر من ويلات الحروب وتداعياتها السلبية على الحـياة والأحـياء. وستمر الغيمة الحالية وستنجلي عن وجه مصر ليتلألأ بكل أبعاده العربية والإسلامية عاجلا أو آجلا ، وستعود مصر إلى كونها الواحة الرطبة التي يطيب العيش في أدواحها لكل المضطهدين والمستضعفين من المسلمين والعرب الذين افتقدوا الأمن والأمان في بلادهم العربية ، وستبقى الملاذ الوحيد لأشقائها الفلسطينيين وبخاصة أهل قطاع غزة ، تمنعهم وتحميهم من غـطرسة الأعـداء ، ومن ظلم الأقوياء فيهم على الضعفاء منهم ، ومن بعض الطامعين في بسط الهيمنة على ما سيتبقى من المسجد الأقصى باسم الوصاية الدينية . وإنه لا ولن ينسى الشعب الفلسطيني والعرب أجمعون ، وما ينبغي لهم أن ينسوا أفضال مصر عليهم ، وتضحياتها من أجلهم . فلماذا لا يُرد الفضل لأهل الفضل ؟، ولماذا لا يُرد الجميل لأصحاب الجميل بمثله إن لم يكن أحسن منه ؟. ولماذا لا يقف العرب كلهم بجانبها في محنتها بالدعم المادي والمعنوي ، كلٌ حسب الوفـرة والقدرة ؟. ألم تكن مصر سياجهم الواقي ، يُهرعون إليها كلما انكشفت عوراتهم ؟. أليست مصر هي التي أمدتهم بكل مقومات استمرارهم في حروب الاستقلال وتعرَّضت للضرب والحصار حين رفضت أن تتخلى عن واجباتها الوطنية ، فواجهت الجوع ونقص في الأقوات حين قسمت رغيف الخبز بين أبنائها وبينهم ، وفتحت جامعاتها ومعاهدها العلمية لأبنائهم لتنير عقولهم بضياء العلم والمعرفة ؟. أيكون جزاؤها ما جوزي به سِنِمَّار ؟! . ولكننا نقول إن ما فعلنه مصر وما قدمته ليس مِنَّة منها على أحد ، وإنما هو واجب وطني ، فإذا كان الأمر كذلك ، فعلينا نحن الفلسطينيين وعلى سائر العرب أجمعين أن نقابل الواجب بالواجب ، وأن نُتبع الحسنة بأحسن منها ، أم أننا وجدنا البديل عن مصر ، وأن العرب المستعربة قد اغتنوا واستغنوا بعد أن أزكمتْ أنوفَهم رائحةُ البترول ، وأعمى عيونَهم بريقُ الذهب الذي يتكوم في حجورهم ، وأحسوا بالأمن والاطمئنان حين يرون القواعد العسكرية الأمريكية قائمة في بلادهم ، وقريبة من قصورهم التي ينامون فيها ، فيأخذهم وهمهم الأعمى ، وتُزيِّن لهم شياطينهم أنهم خرجوا من القمقم ، فصاروا الآن نداً لمصر وبديلا عنها في قيادة وزعامة الأمة العربية .
مصر الحبيبة : صاحب هذا القلم فلسطيني من قطاع غزة ، هذا القطاع الذي كان حتى الرابع من يونيه – حزيران 1967 أمانة لدى مصر وتحت إدارتها : سياسياً وعسكرياً ، وكان بمثابة إحدى محافظات مصر ، وتحت إدارة الحاكم العام المصري الذي يتبع مباشرة القائد العام للقوات المسلحة المصرية حينذاك . فكانت مصر مسؤولة عن أمنه وعيشه وصحته وتعليم أبنائه بمناهج ومقررات مصرية من الصف الأول الابتدائي إلى التوجيهي ، يشارك في تعليم المرحلة الثانوية أساتذة مصريون أفاضل ، وكانت شهادة الثانوية العامة مصرية ، تُستخرج من الإدارة العامة للامتحانات بالقاهرة . وكنا نحن الطلبة نحيي العلميْن الفلسطيني والمصري ونهتف بحياة الـ ج . ع . م ، وبعروبة فلسطين . ولقد أنشأت مصر كتائب جيش التحرير الفلسطيني ، وقامت على تدريب وتسليحه ، وفتحت باب الكلية الحربية للفلسطينيين لتخريج الضباط المشاة والصاعقة ، ونذكر - بالوفاء أيضا - كتائب الفدائيين الفلسطينيين التي أُنشئت بقيادة الشهيد المقدم مصطفى حافظ الذي اغتالته المخابرات الإسرائيلية بطرد ملغوم . ونحن نسرد هذا القليل من الذكريات نُذكِّر به الناس في مصر وفلسطين ممن لم يعاصروا الحياة في ذلك الزمان ، ونذكِّرهم بأن قطاع غزة ، ظل وما زال وفيا للعهد والود ، وصادقا مخلصا في حبه وانتمائه لمصر الأم ، التي كانت هي الملاذ والملجأ للفلسطينيين قبل الاحتلال ، وللذين أبعدتهم إسرائيل بعد الاحتلال ، أو للذين ضاقت بهم الأرض العربية حين رفضت الدول المستعربة استضافتهم في أراضيها . هذا عدا اختلاط الدم الطاهر الذي روى الأرض المصرية والأرض الفلسطينية بشهادة القادة العسكريين المصريين في مذكراتهم التي تؤرخ لحرب 1948 ولحرب يونيه 1967 ولسنوات حرب الاستنزاف ، ولحرب أكتوبر 1973 . هذا غيض من فيض لبيان عمق المؤاخاة ومدى النصرة بين الشعبين الشقـيقـين .
إذن ، فلماذا هذا الجفاء يا مصر يا حبيبة ؟ ، إذ ليس من طبعك الجفاء ، بل السماحة والصفح الجميل . إلى متى تبقى هذه الجفوة ونحن نكن لك كل الحب ، وندعو لك بالنماء والازدهار وبسلامة أرضك وبوحدة شعبك ؟. نحن - عرب قطاع غزة – فلسطينيو الجنسية مصريو الهوى والثقافة . ولسنا إرهابيين كما يُصنِّفنا الأعداء ، وينعتنا بها الأشقاء . بل نحن أصحاب قضية وطنية ، لم يتغير هدفنا ولم نغيِّر قبلتنا فلسطين المحتلة ، فنحن الذين أشاد بهم عبد الناصر بعد معركة الكرامة سنة 1968 حين وصف العمل الفدائي الفلسطيني بأنبل ظاهرة خرجت من بين ظلام الهزيمة ترفض الاستسلام . ونحن الذين غنت لهم السيدة الراحلة أم كلثوم (إلى فلسطين خذوني معكم) ، وغنى لهم المرحوم عبدالحليم حافظ (فدائي ، فدائي) ، وغير ذلك كثير من الأعمال الفنية والشعرية والأدبية ، كل هذا محفور في الذاكرة الفلسطينية . فلتُقطع كل يد فلسطينية –إن وُجدتْ – تمتد إلى مصر بالإيذاء ، أو تشارك فعلا أو قولا في زعزعة أمن وسلامة مصر ووحدتها الوطنية ، أو تسكت عن قول أو فعل فيه إيذاء لمصر أرضا وشعبا وجيشا . ونحن نتمنى على القيادة المصرية الرشيدة أن تراجع نفسها في لحظات هدوء ، تستنطق الواقع والتاريخ ، فستنجلي لها حقيقة الأمر : أن الأغلب الأعم في قطاع غزة ليسوا حزبيين ، فقليل منهم حمساويون وقليل منهم فتحاويون ، فلا تأخذوا الكثرة بالقلَّة ، ولا تعاقبوا الكثير بالقليل ممن ينتمون إلى حزب الإخوان المسلمين . وهَبْ أن أفرادا من هذه القلة الحزبية قد كان لها - سواء بالشك أو اليقين – تدخل في الشأن المصري ، أو كما أُذيع عن ضلوع حماس في نجدة الإخوان المسلمين يمصر ، فهذا ليس مبرراً أن يعاقب أهل قطاع غزة ( أكثر من مليون ونصف فلسطيني ) لعمل آثم يستنكره ، أو لخطيئة دينية ووطنية وأخلاقية يلعن مرتكبيها . كذلك ليس مبررا أن يظل قطاع غزة محفوفا بمخاطر الحصار من جميع الجهات ، وخاصة إغلاق معبر رفح الممر الوحيد للقطاع إلى العالم ، الذي تملك مصر مفاتيحه .
لهذا فإنني أتوجه إلى السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي ، وألتمس منه أن ينظر إلى قطاع غـزة بعين الواجب الديني والأخلاقي ، وبعين الواجب الوطني والقومي ، ليُخلِّصهم برفع الحصار عنهم ، ويضمد جراحاتهم الحياتية ، وينتشلهم من حياة الظلم والظلام ، إذ لا أحد يمكنه ذلك سواه ، فحتى رئيسنا في رام الله لا يعنيه انتشالنا ، وحكومة غزة لا تريد انتشالنا ، فكلاهما يتربع على كرسي مشيخته مستريحا بما ينفق على نفسه وحاشيته وأزلامه من مال الصدقات ، وكأني بكليهما يردد المثل المغاربي الذي يقول : " إخطَى راسي وقُص " .
سيادة الرئيس : لقد أغراني بكتابة هذه المقالة هتافكم في ختام كلمتكم في افتتاح مؤتمر القمة العربية السادس والعشرين : " تحيا الأمة العربية " ، وأنا أهتف معقباً : تحيا مصر ، وعاشت فلسطين عربية. فليتك لا تدير لنا ظهرك كما فعل الآخرون ، فأنت الرئيس الوطني المنتظر الذي طال زمان ظهوره ، ونحن ما زلنا جزءاً أصيلا من هذه الأمة العربية التي تهتف بالحياة لها يا سيادة الرئيس . فما كان منتصرا مَن لا يحذو حذو ناصر العرب باستعادة دوْر مصر القومي ، حتى لا يزيد عدد الدول العربية في الجامعة العربية وفي المحافل الدولية ، وحتى لا تتناقص مساحة الأرض العربية بإقامة دويلات ذات قوميات عرقيَّة بمباركة أمريكا وإسرائيل . وحتى لا تتزايد التنظيمات التي تدمر المدن وتقتل أهلها وتفتك بأعراضهم باسم الدين الذي هو منهم براء ، وحتى لا تستفرد إسرائيل بالفلسطينيين كما حدث في حروبها الثلاثة الأخيرة ، والتي كان أشدها قتلا وتدميرا وتخريبا حرب 2014 التي استمرت واحدا وخمسين يوما على قطاع غزة برا وبحرا وجوا. فهل لنا عندكم من مخرج لحمايتنا نحن الذين نعيش فوق الأرض بلا غطاء يحمينا من صواريخ الطائرات الحربية ومن المدفعية الثقيلة التي ترجمنا بها البوارج البحـرية والدبابات ؟. وهل لمخيم اليرموك وجود على خريطة الوجدان المصري ؟ ! .***
بقلم/ الكاتب الصحفي عبدالحليم أبوحجاج