أما الملفت في جولة كارتر فهو أنها لم تتضمن زيارة مصر ولقاء الرئيس السيسي بالرغم من أن أهداف زيارته كما قال: العمل على رفع الحصار، وإعادة الإعمار، وتحقيق المصالحة، والدفع بالجهود الرامية إلى إنقاذ حل الدولتين. وهذا الإغفال يعود إلى أن وضع مصر لا يسمح لها بالانشغال عن أوضاعها الداخلية، مع أنها رحبت بـ «مبادرة كارتر» متمنية لها النجاح.
أبلغ أبو مازن كارتر بأنه لا حاجة لحوارات واتفاقات جديدة، وأن المطلوب تطبيق الاتفاقات المبرمة خطوة خطوة ولكن بسرعة، وأن الأمر المهم هو إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية وتشكيل حكومة على إثرها، تقوم بمعالجة جميع الملفات، وأنه سيصدر المرسوم الرئاسي لإجراء الانتخابات فور حصوله على موافقة خطية من «حماس» بإجرائها. كما سيدعو المجلس التشريعي إلى الانعقاد لإقرار قانون الانتخابات التي ستجري على أساسه.
ودعا أبو مازن إلى عقد الإطار القيادي المؤقت في أي مكان يُتفق عليه حتى لو كان في رام الله بمشاركة من يستطع الحضور من «حماس» مباشرة وعبر «الفيديو كونفرنس» لمن لا يستطيع الحضور. وأكد أنه لا يربط إعادة الإعمار بإتمام المصالحة، وإنما بمرابطة الشرطة والحرس الرئاسي على الحدود والمعابر، لأن هذا شرط المجتمع الدولي والمانحين.
«حماس» وفقًا للتصريحات الصادرة عنها توافق على إجراء الانتخابات ولكنها لا توافق حتى الآن على توقيع موافقة خطية بذلك، مع أنها تصر على مشاركة موظفيها على المعابر، ولم تعد تشترط التزامن ما بين الانتخابات الرئاسية والتشريعية وانتخابات المجلس الوطني، مع ضرورة الالتزام بعقد الأخيرة عندما تتهيأ الظروف.
ما سبق يوحي بوجود «لحلحة» ما محتملة في ملف المصالحة، مع أن المعلومات والمؤشرات لا تزال تشير إلى أننا لم نغادر دوائر المناورات والشروط المتبادلة بدليل ربط عقد الإطار القيادي بموافقة «حماس» الخطية على عقد الانتخابات، والتعامل معها كطريقة للإقصاء والسيطرة الأحادية. هذا إذا وافقت إسرائيل على إجراء الانتخابات من دون شروط تصعب الموافقة الفلسطينية عليها. فالانتخابات من دون توافق وطني وفي ظل الاحتلال والظروف المحيطة والخبرة السابقة وصفة مؤكدة لتكريس الانقسام وتعميقه، وتحويله إلى انفصال.
إن أقصى ما يمكن أن تتمخض عنه «مبادرة كارتر» في ظل عدم نضج الأطراف الفلسطينية لتحقيق الوحدة عقد اجتماع الإطار القيادي المؤقت في مكة أو غيرها، وهذا أمر جيد وضروري ولكنه وحده لا يسمن ولا يغني من جوع. فالأسباب التي حالت دون نجاح «اتفاق مكة 1» وانهياره بعد ثلاث أشهر على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، ودون نجاح كل الاتفاقات التي عقدت لا تزال قائمة، وأصبحت العراقيل أعمق بعد تجذر الانقسام أفقيًا وعموديًا.
ولتنشيط الذاكرة نقول بأن أبرز العراقيل التي حالت دون إنهاء الانقسام حتى الآن ولا تزال مستمرة تتمثل بشلل منظمة التحرير، وعدم إعطاء الأولوية لإعادة بناء مؤسساتها لتضم مختلف الأطياف، والمراهنة على المتغيرات والارتهان للأطراف الخارجية (سواء كانت دولًا، خصوصًا إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، أم أطرافًا أخرى مثل جماعة الإخوان المسلمين)، واستمرار الأوهام بإمكانية التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل، مع استمرار سلطة الحكم الذاتي في الضفة بلا سلطة، وإقامة دولة ذات حدود مؤقتة في غزة، إضافة إلى تغييب الشعب عن القرار وغياب المضمون السياسي وبلورة القواسم المشتركة عن اتفاقات المصالحة وأسس الشراكة، والسعي للتفرد والهيمنة والإقصاء المتبادل بين الطرفين، وعدم وجود طرف ثالث قوي وفاعل ومسلح بحركة شعبية قادرة على فرض إرادة الشعب على طرفي الانقسام وعلى إحداث التوازن المطلوب، وتغليب الصراع على السلطة والمصالح الخاصة والفئوية على المصالح الوطنية.
وأضيف عقبة أخرى تتمثل بخشية أبو مازن من تقارب (سعودي إخواني حمساوي)، وانعكاسه بإنقاذ «حماس» من مأزقها، وأن أكثر ما يهمها تصحيح علاقتها بالسعودية بما يمكنها من الاستمرار وعدم الاستجابة لشروط أبو مازن للمصالحة، التي تريد أن تجردها من كل شيء تقريبًا مقابل الاعتراف بها كطرف لا يمتلك القدرة على تغيير القرار الفلسطيني.
الأهم في كل هذه الحكاية ملاحظة تغير الموقف السعودي المتخذ منذ فشل «اتفاق مكة» وحتى الآن لأي دخول على ملف المصالحة، وتحميله لـ»حماس» المسؤولية عن الفشل، وما أدى إليه بعد ذلك من قطيعة بين الرياض و»حماس»، تطورت فيما بعد إلى عداء بين الملك السعودي الراحل وجماعة الإخوان المسلمين، حيث اعتبرتها السعودية جزءًا من التحالف «التركي القطري» ثم «الداعشي» الذي كانت تعتبره الرياض الخطر الثاني بعد الخطر الإيراني الأول.
بعد وفاة الملك عبد الله واستلام سلمان زمام الحكم حدث تغير مهم في السياسة السعودية، إذ بات عندها الخطر الإيراني هو الخطر الأساسي، الأمر الذي أوصل الأمور إلى «عاصفة الحزم» التي قررتها الرياض قبل القمة العربية، ووضعتها أمام أمر واقع لا تستطيع إلا أن توفر له الغطاء رغم القرار السعودي الانفرادي والسلوك السعودي في القمة، حيث غادر سلمان شرم الشيخ بعد أن أنهى خطابه وأخذ معه الرئيس اليمني الذي من المفترض أن القمة معقودة من أجل بلاده، ومن المفترض أن يبقى حتى تنتهي القمة، إلا أنه «عبد مأمور» لا يستطيع أن يعارض الرسالة التي أراد سلمان أن يوصلها للجميع بأن الأمر انتهى بخطابه وأن على القمة المصادقة على ما يريد.
جاء تغير السياسة السعودية بناء على نصيحة أوباما لسلمان أثناء تعزيته بوفاة الملك عبد الله بالانفتاح على جماعة الإخوان المسلمين، الذي ظهر بإعادة النظر في الموقف السعودي السالف من التحالف (التركي القطري الإخواني)، إذ تتكاثر المؤشرات على انضمام السعودية إليه، وتعزز هذا الاتجاه بأن جماعة الإخوان المسلمين بشكل عام، وفرعها في اليمن تحديدًا، وقفت إلى جانب السعودية في «عاصفة الحزم» وهي تحارب ضد النظام السوري، أي تقف إلى جانب حكام أنقرة والرياض والدوحة. كما أن «حماس» أيدت الشرعية في اليمن وأخذت تطالب علنًا بدور سعودي في المصالحة الفلسطينية.
السؤال: ماذا سيكون الموقف المصري، خصوصًا إذا امتد الموقف السعودي الجديد إلى المطالبة بالمصالحة بين السيسي والإخوان المسلمين؟ فإذا اقتصر الأمر على دخول السعودية على ملف المصالحة الفلسطينية يمكن بلعه مصريًا، وخصوصًا أن الحوار سيدور حول تطبيق اتفاق المصالحة الذي رعته مصر، وأن أوراق التحكم بهذا الملف ستبقى بيد مصر وتستطيع التحكم به إيجابًا أو سلبًا متى تريد. فالقاهرة ستكون سعيدة إذا تمكنت السعودية من إقناع «حماس» من تمكين السلطة من السيطرة على الحدود والمعابر، بما يضمن توفير الأمن المصري عبر إغلاق نافذة التهديد الآتية من تعاون المنظمات «الجهادية» التكفيرية في سيناء وغزة، سواء بمساعدة مباشرة من سلطة «حماس» أو مجرد غض نظرها عن ذلك.
في هذا السياق، هناك تقديرات لا أستطيع الموافقة عليها تمامًا ولا أتجاهلها تفيد بأن «شهر العسل» المصري السعودي يشارف على الانتهاء، لأن القاهرة لا تشاطر الرياض بأن الخطر الإيراني هو الخطر الوحيد أو الأساسي، وأن هناك مقاربة مصرية مختلفة للتعامل مع إيران وسورية تعطي الأولوية لمحاربة الإرهاب والوقوف أمام التحالف (التركي القطري الإخواني)، وهذا إن حصل سينعكس سلبًا على أي جهد سعودي لإتمام المصالحة الفلسطينية.
قد يتلاقى جهد كارتر مع جهد عربي إقليمي دولي يسعى لإتمام المصالحة بالترافق مع هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، تمنع في الحد الأدنى انفجار الوضع الفلسطيني في منطقة ملتهبة بكل أنواع الانفجارات، وتسعى في الحد الأقصى لتهيئة الأجواء لإحياء حل الدولتين الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهناك جهود دولية من مصادر متعددة بإنقاذه قبل أن يتوفاه الأجل، ويفتح المنطقة على أبواب المجهول.
هاني المصري
05 أيار 2015