أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، لوّحت حكومة نتنياهو وبموافقة أميركية وبعض الأوساط الأوروبية والدولية بأنها مستعدة للسماح بإقامة ميناء ومطار ورفع الحصار وإعادة الإعمار في حال وافقت «حماس» على هدنة طويلة الأمد وعلى نزع سلاح المقاومة ووقفها، أي تعميم نموذج الضفة على غزة.
هناك أوساط إسرائيلية داخل الحكومة السابقة وخارجها كانت تفضّل تمكين سلطة أبو مازن من مدّ سيطرتها الكاملة على غزة، لأن ذلك يساعد على توفير الأمن لإسرائيل، وعلى استئناف المفاوضات، والتوصل إلى اتفاق يسمح بإقامة دولة فلسطينية وفق الشروط الإسرائيلية، أي على حساب قضية اللاجئين ومن دون القدس وبلا سيادة وعلى معازل منفصلة عن بعضها البعض وعلى جزء من الضفة، وبالتالي نزع جميع مقومات الدول عنها باستثناء الاسم.
«حماس» كانت تتراوح بين الاستعداد للتعاطي مع الطرح الإسرائيلي، ولكن مع رفض نزع سلاح المقاومة وقبول الهدنة طويلة الأمد، وبين تفضيل أن تكون تحت مظلة السلطة، خصوصًا بعد تشكيل حكومة الوفاق الوطني، ولكن مع الاحتفاظ بمصادر قوتها التي تجعلها قادرة على التحكم بالسلطة من دون أن تكون في الحكومة. وهي تنسى أن طريقة إسرائيل في التفاوض معها لن تختلف عن طريقتها في التفاوض مع المنظمة، إذ إنها تريد أن تحصل على كل شيء أولًا من دون أن تعطي شيئًا سوى القليل الذي ستحاول بعد ذلك لاسترجاعه.
فهي تدرك أن تدهور علاقتها بمصر، وعدم عودة علاقتها بإيران إلى سابق عهدها، وأزمتها المالية التي لم تمكنها من دفع رواتب موظفي حكومتها بانتظام؛ لا توفر لها خيارات كثيرة، إذ لا تستطيع رفع الحصار وفتح المعابر وإعادة الإعمار في حال كانت هي المظلة وليست السلطة المعترف بها عربيًا ودوليًا، لذلك وافقت على تشكيل وفد فلسطيني مشترك برئاسة عزام الأحمد للتفاوض على شروط وقف إطلاق النار، مع سعيها لكي تكون لها الكلمة الفصل حول أي اتفاق لوقف إطلاق النار. ولكن المفاوضات توقفت ولم تحصل سوى على وقف إطلاق النار، وتفاقمت الأمور عما كانت عليه قبل العدوان.
أجرت «حماس» وإسرائيل – وفق ما أفادت مصادر متعددة حمساوية وإسرائيلية وعربية ودولية - مفاوضات غير مباشرة عبر وسطاء قطريين وأتراك وأوروبيين ودوليين، وذلك في ظل الاتفاق على وقف إطلاق النار من دون الاتفاق على فتح الميناء والمطار ورفع الحصار وإعادة الإعمار، لكي يصار إلى استمرار التفاوض عليها، الأمر الذي لم يحدث حتى الآن ولا يبدو أنه وارد الحدوث، ومع عدم تحمل حكومة الوفاق لمسؤولياتها إزاء قطاع غزة، لأن السلطة - كما تقول - لا تريد أن تكون طربوش للتغطية على حكومة «حماس» التي تسيطر على مقاليد الأمور، فهي تريد للحكومة أن تحكم فعليًا، أما «حماس» فترفض ذلك من دون اتفاق شامل لكل القضايا، والضحية هو المواطن الغزيّ الذي يُطحن ما بين فكي طرفي الانقسام، وما بين الحصار والعدوان الإسرائيلي وإغلاق معبر رفح.
يحرك «حماس» في مفاوضاتها غير المباشرة مع إسرائيل فقدان أي أمل بإنجاز المصالحة قريبًا، والأزمة المتفاقمة التي يعيشها القطاع، وخشيتها من أن تؤدي إلى الانهيار أو الانفجار القادم إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، وهي تعتقد بأن صمود غزة والمقاومة الباسلة التي جسدتها أثناء العدوان الأخير، وخشية إسرائيل من حصول مواجهة جديدة، أو من انهيار سلطة «حماس» ودخول القطاع في فوضى المرشح الأكبر لملئها العناصر والقوى المتطرفة التي لا توجد جهة تسيطر عليها، لأن حكومة الوفاق الوطني أو حركة فتح غير قادرتين على ملء الفراغ الذي سيحدث؛ يُمكن أن يُقنع إسرائيل على الأقل بفتح ميناء، حتى ولو كان عائمًا وتحت إشراف دولي من دون أن يتم نزع سلاح المقاومة، مقابل هدنة طويلة الأمد تتراوح ما بين 5-15 سنة.
عندما أصبح الأمر جديًا طلبت إسرائيل من «حماس» عبر وسطاء وقف تهريب السلاح وتطويره، ووقف بناء الأنفاق، خصوصًا الأنفاق الهجومية التي تُحفر على الحدود وتستهدف إسرائيل أولًا وقبل كل شيء، لأن رهان حكومة نتنياهو أن الضائقة الشديدة التي تمر يعيشها القطاع وتمر بها «حماس» يمكن أن تدفعها إلى قبول الشرط الإسرائيلي، وهاجس الحكومة الإسرائيلية الأساسي أن أي خطوة لا بد أن تساهم في استمرار الانقسام وتعميقه وتحويله إلى انفصال، لأن من شأن ذلك أن يقضي نهائيًا على أي حل لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة العام 1967، ويشق الطريق واسعًا لاستكمال خلق الأمر الواقع على الأرض الذي يجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليًا.
«حماس» تنفي حتى الآن نفيًا قاطعًا ما يكرره الرئيس أبو مازن عن أنها أجرت مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، بالرغم من أن عددًا من قادتها البارزين قالوا بأن هناك «اتصالات» أو «دردشات»، وبعضهم وصل إلى حد إبداء الاستعداد للانخراط في مفاوضات مباشرة، ولكن مع التمسك بالثوابت والمقاومة ومن دون تكرار ما قدمته «فتح» والمنظمة في المفاوضات من تنازلات عن المقاومة والثوابت، خصوصًا إذا كان الغرض منها أمورًا حياتية وإنسانية مثل تبادل الأسرى ورفع الحصار وفتح المعابر وإعادة الإعمار. والمفاوضات المباشرة يمكن أن تكون قد حصلت أو يمكن أن تحصل إذا لم يتم فتح باب الوحدة الوطنية المغلق.
حتى الآن لم يتم التوصل إلى اتفاق، ومن الصعب التوصل إليه إذا تمسك كل طرف بشروطه حول نزع سلاح المقاومة أو التمسك بها، ويمكن أن يعزز نجاح اليمين الأكثر تطرفًا في الانتخابات الأخيرة في إسرائيل وتشكيل الحكومة الأسوأ منذ تأسيس إسرائيل من احتمالات التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل و»حماس»، أو على الأقل يحسّن من شروط الوضع القائم الآن من دون التوصل إلى اتفاق.
لو فاز «المعسكر الصهيوني» في الانتخابات الأخيرة أو شارك في الحكومة، لكانت الكفة ستميل لصالح مدّ سلطة أبو مازن إلى قطاع غزة، والتشدد ضد «حماس» أكثر، لأنه منفتح على المفاوضات، ويخشى من تداعيات استمرار الجمود الحالي في عملية «التسوية»، وما يمكن أن يؤدي إليه من بروز خيارات وبدائل غير مناسبة لإسرائيل، من ضمنها خيار الدولة الواحدة الذي يهدد بقاء إسرائيل كدولة «يهودية».
فحكومة نتنياهو الرابعة ضد إقامة دولة فلسطينية بصورة أكبر، حتى من حكوماته السابقة، ولو كانت وفق الشروط الإسرائيلية، فأقصى ما يمكن أن توافق عليه هذه الحكومة «سلطة حكم ذاتي» مقابل إنهاء الصراع واتفاق نهائي، فهي حكومة المستوطنين و»أرض إسرائيل الكاملة»، ولا يغير من هذه الحقيقة عودة نتنياهو إلى التلاعب والمناورة عبر الحديث عن الدولة، فالأهم أن برنامج الحكومة لا يتضمن أي إشارة للدولة الفلسطينية، وكل ما تقوم به وتخطط له هذه الحكومة يجعل قيام الدولة أمرًا مستحيلًا أكثر من أي وقت مضى، خصوصًا بالنسبة لتوسيع الاستيطان، ونيّتها لتحويل بقية البؤر الاستيطانية العشوائية إلى جزء من المستوطنات القائمة أو تحويلها إلى مستوطنات «شرعية» كما حدث سابقا مع عشرات البؤر، وفي ظل استكمال تهويد القدس وأسرلتها، وتأبيد انفصال الضفة عن القطاع، وتعميق أن السلطة في الضفة بلا سلطة.
لتحقيق هذه الأهداف وعدم الانجرار إلى مواجهة جديدة في وقت غير مناسب لإسرائيل؛ تفضل إسرائيل بقاء سلطة «حماس» مسيطرة على القطاع، ليس حبًا بها، ولكن لضمان استمرار الانقسام واستخدامها لابتزاز تنازلات جديدة من الرئيس أبو مازن، مثل الموافقة على استئناف المفاوضات بلا شروط أو وفق شروط ليّنة، أو التعاطي مع حلول تنتقص من الحقوق الفلسطينية، وحتى تتحمل «حماس» المسؤولية عما يجري في القطاع، شرط أن تبقى ضعيفة أمام إسرائيل، لذلك كلما قويت يتم شن عدوان جديد يجعل «حماس» والقطاع يدفعون ثمنًا باهظًا من استمرار التمسك بخيار المقاومة وتهريب السلاح وتطويره وحفر الأنفاق.
ومن أجل تنفيذ هذه السياسة ومنع انهيار أو انفجار قطاع غزة، وافقت إسرائيل على تقديم تسهيلات عديدة بالنسبة لإدخال الأموال لدفع رواتب موظفي حكومة «حماس»، وإدخال البضائع وبعض المواد لإعادة الإعمار. كما أعطت إسرائيل تصاريح لعشرات الآلاف من العمال الغزيين للعمل في إسرائيل، وزادت التصاريح ومددها للشخصيات المهمة والتجار لدخول إسرائيل والتنقل ما بين الضفة وغزة.
إن استمرار الانقسام وعدم استعداد طرفيه لتقديم التنازلات والمواقف التي تؤدي إلى إنهائه واستعادة الوحدة الوطنية، على أساس القواسم المشتركة والشراكة الحقيقية الكاملة في السلطة والمنظمة، واللجوء إلى الشعب عبر ديمقراطية توافقية؛ يعني أن الطرفين سيبقيان في حالة منافسة بينهما لكسب ود إسرائيل لكي تعتمد من يقدم أكثر، في ظل أن أقصى ما يمكن أن تصل إليه السلطة في الضفة «حكمًا ذاتيًا» تحت سيادة دولة الاحتلال، و»دويلة» في غزة مقابل هدنة طويلة الأمد. بينما تفتح طريق الوحدة والمقاومة ضمن إستراتيجية متفق عليها آفاقًا رحبة يمكن أن تنقذ القضية والأرض والشعب.
بقلم/ هاني المصري