كثيرون هم الأثرياء العرب، أصحاب الملايين والمليارات، ممن يملكون ثرواتٍ مهولةٍ تفوق ميزانية بلادهم، وتتفوق على ثروات غيرهم، ما يجعلهم يتربعون على عرش أغنى أغنياء العالم بما يتراكم في أرصدتهم من أموالٍ تزداد كل ثانية، وتتضاعف كل يومٍ، حتى بات من الصعب قراءة أصفارها، وتصور أحجامها، والإحاطة بحدودها، إذ لم تعد ثرواتهم مجرد أموالٍ نقدية، بل باتت إلى جانب الأرصدة المالية، عقاراتٌ وأسهم، وشركاتٌ ومؤسساتٌ، وبنوكٌ وهيئات، تشمل كل المرافق الاقتصادية، وتعمل في كل المناحي التجارية والإعلامية والصناعية والزراعية والمالية والنفطية، ويمزج بعضهم في أعماله بين المشروع والممنوع، والمباح والمحرم، فيعمل في تجارة السلاح ولا يضيره الاتجار بالمخدرات والمحرمات والرقيق الأبيض والتهريب والتبييض وغير ذلك، مما ينمي الأموال بسرعة، ويضاعفها باضطرادٍ كبيرٍ يتجاوز العقل والمنطق.
لا اعتراض على الغنى والثراء، ولا إكراه أو جبر على الرزق، ولا حسد للأثرياء وأصحاب المليارات، ولا نقمة عليهم أنهم أغنياء، ولا غضب أنهم يملكون ما لا نملك، ويحوزون على ما لا نعرف، ولا كفر بالقدر، فهذه سنة الله في خلقه، أن يكون في الحياة الدنيا أغنياءٌ وفقراء، وأثرياءٌ ومعوزون، وقادرون وعاجزون، فالله سبحانه وتعالى لا يحبس رزقه عن أحد، ولا يمنع عطاءه عن عبد، بل يرزق ويعطي، ويغدق ويفتح، ويتيح بين الخلق السباق والتنافس، والعمل والجد، ما يجعلهم يتفاوتون ويتمايزون، غنىً وقوةً، وثراءً وسعةً، ولهذا كان الأغنياء قديماً وسيبقون، كما عاش الفقراء طويلاً وسيبقون، ومنهم من اغتنى بعد فقرٍ، وفتح الله عليه بعد طول حرمانٍ، ومن الأغنياء من نزلت به الكوارث، وحلت بأمواله المصائب، ففقر بعد غنى، وعاش الشظف والحرمان بعد النعيم والمتعة والرخاء، وستبقى هذه السنة الإلهية في الخلق إلى يوم القيامة.
الأثرياء العرب كثيرون جداً، وبعضهم يبز أثرياء العالم ويتفوق عليهم، ويملك أكثر منهم وأعظم من ثرواتهم، وتشهد على ذلك قوائم الأثرياء التي تصنف سنوياً، ويكون للعرب فيها نصيبٌ كبيرٌ وحظٌ وافرٌ، وقد راكموا أموالهم من طين أرضنا، ومن خيرات بلادنا، ومما أفاء الله به على هذه الأمة، فاستفادوا منها، وانتفعوا فيها، حتى غدوا أغنياء أثرياء، وما عادوا يشكون فقراً، أو يعانون من حاجة، وقد عاش أبناؤهم بحبوحةً كبيرةً، ورخاءً واسعاً، فدرسوا في أفضل المدارس وأشهر الجامعات، وامتلكوا من صغرهم أفخم السيارات وأغلى العربات، وسكنوا في بيوتٍ كالقصور، واستمتعوا بحدائق ومزارع كالخيال، وأنفقوا كمن يغرف من بحر، ويأخذ من هواء، فلا يخاف من نقصٍ ولا يخشى من ضحالةٍ، بل كانت أموالهم تزداد، وثرواتهم تتضاعف.
ولكن أثرياء العرب ليسوا سواءً، ولا يتشابهون فيما بينهم، وإن كانت الأرقام الفلكية تجمعهم، والشركات العملاقة توحدهم، إلا أنهم على أنواعٍ وأشكالٍ، فمنهم وهم الأقلية الذين يحمدون الله على ما أعطاهم، ويشكرونه على ما منحهم واختصهم، فلا ينسون من أموالهم حق الفقراء والمساكين، ونصيب المحتاجين والمعوزين، فيعطون بسخاء، ويقدمون بلا تردد، وينفقون عن طيب خاطرٍ، في الوقت الذي يعملون فيه في بلادهم، ويبنون في أرضهم، ويستثمرون بين أهلهم، فيشغلون أعداداً كبيرة من شعبهم، ويفيدون قطاعاتٍ واسعة من أبناء بلادهم.
لكن غيرهم وهم كثير آثر أن يستحوذ على خيرات بلاده، وأن ينهب ثروات أوطانه، وأن يودعها بنوك العالم ومصارف الدول الرأسمالية بعيداً عن عيون بلاده، ليس مخافة الحسد، وخشية من ضيق العين، بل فراراً بأموالٍ منهوبة، وتهرباً من حقوقٍ مسلوبةٍ، التي هي حقٌ مشروعٌ لشعوبهم وأوطانهم، إذ أن أصل الكثير منها نفطٌ أو غازٌ أو آثار، أو عوائد شركات اتصالاتٍ وخدماتٍ تدر أموالاً طائلة، وتسحب من جيوب المواطنين مدخراتهم، وتفلسهم بداية شهرهم.
أو يحرصون أن يبقوا وأموالهم بمنأى عن أجهزة الرقابة والتفتيش التي تساعدهم أحياناً وتنبههم، وتقدم لهم الاستشارات والنصائح لتبقى أموالهم في مأمنٍ، وثرواتهم بعيدةً عن الخطر، وفي المقابل يتقاضون عن خدماتهم غير المشروعة بدلاتٍ كبيرة، وهباتٍ وأعطياتٍ كثيرة، فهم يساهمون كثيراً في حماية ثرواتهم، ويحولون دون مصادرتها أو تعرضها للخطر، فضلاً عن تسهيل تهربهم الضريبي، وإعفائهم من أي رسومٍ مشروعة للدولة.
هذا الصنف من أثرياء العرب يعيش كثيرٌ منهم وأولادهم في بلادٍ أخرى، ويتمتعون بجنسياتٍ عديدة، يحصنون أنفسهم ويحمون ثرواتهم، ويستثمرون خيرات بلادهم في دولٍ أخرى، التي أودعوها أموالهم، فلا يساهمون في بناء أوطانهم، ولا يشاركون في تنمية اقتصادهم، ولا يحاولون تخفيف الأعباء عن شعوبهم، إذ أنهم لا يشغلون الكثير منهم، ولا يقبلون بهم موظفين أو عمالاً في شركاتهم، ويفضلون عليهم الأجنبي والغريب، بحجة أنهم أكفأ وأمهر، وأصحاب خبرةٍ وتجربة، وأنهم يفيدون كثيراً وينفعون، وإذا أرادوا إحياء حفلةٍ أو القيام بمناسبةٍ، كحفلات الزفاف والخطوبة والميلاد، فإنهم يعقدونها بعيداً عن عيون شعوبهم، وفيها يغدقون بسخاءٍ ملكيٍ على القائمين على الحفلات، والمشاركين فيها طرباً وغناءً، ورقصاً وشرباً وفجوراً.
بعد أيامٍ قليلة يهل علينا شهر رمضان المبارك، شهر الخير والإحسان، والجود والسخاء والعطاء، وما في العالم كله أسوأ حالاً من أغلب الشعوب العربية، وأكثر فقراً منهم، وأشد حاجةً من أبنائهم، فبلادهم مدمرة، والحرب بينهم مستعرة، والأرض من حولهم مشتعلة، ويلقى فيها بكلِ عزيزٍ من الأرواح والممتلكات والحضارة والتاريخ، لتبقى متقدة، وتستمر محرقتها المهلكة، وأعمالهم معطلة، ولا يوجد حكوماتٌ كافلة، ولا هيئاتٌ ضامنة، ولا جهاتٌ راعية، بل إن حكوماتهم وسلطاتهم تلاحقهم بالضرائب بدل أن تسعفهم بالمساعدة، وتخفف عنهم بالمعونة، وتثقل كاهلهم بحاجتها إليهم، واعتمادها عليهم، فهم باتوا بالنسبة لها مصدر دخلٍ وعامل بقاءٍ ووجود.
فهل تستيقظ في هذا الشهر الفضيل ضمائر أثرياء العرب، وهل يفيقون من غفلتهم، وينهضون من سباتهم، ويدركون أن أمتهم في حاجةٍ إليهم، وأن شعوب بلادهم لهم حقوقٌ عليهم، وأنهم يتطلعون إلى جهودهم ومساهماتهم، فيفتحون لهم خزائنهم، ويتصدقون عليهم من حر أموالهم، ويساعدونهم في بناء مستقبلهم، أم أنهم سيمضون في غيهم، وسيواصلون ضلالهم، وسيمعنون في فسادهم، وسيغمضون عيونهم عن كل خيرٍ، وسيقطعون أيدهم عن كل معروف، وسيشكون ضيق عيون شعبهم، وحسد نفوسهم، وخبث مقاصدهم.
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي