حتى لا نحُكِّم الأهواء في تزيين ما نشاء ، علينا أن نتحدث بصراحة عما نكابده في قطاع غزة من معاناة لا يمكن السكوت عنها أكثر، ولا يمكن احتمال عذابها مدة أطول . فالخراب الذي ينتشر في جسم البلاد هو من صنع ساداتنا وكبرائنا وقادتنا ، وقد يقول الإنسان الجواني فينا : إننا ساهمنا في صنع هذا الخراب يوم أن اخترنا هؤلاء نُوَّابا عنا في اتخاذ القرار ، وإن كان ذلك لزمن محدود ، وليس على طول كما هو حاصل اليوم . ولقد ثبت فشل هؤلاء في حمل الأمانة حين أثبتت الأيام بما حملته من كوارث ونوازل أنهم كالآلهة – في زمان تعددها – تُعِين قوى الشر على ذبح رعاياها على مرأى ومسمع منها دون أن يهتز في رأسها شعرة ، أو يرتعش في جفنها رمش . فأمير الحرب الذي لا يُحسِن القتال يقع تحت رحمة ضباط جيشه ومستشاريه الذين غالبا ما يُغوونه أو يُرغمونه على خوض المعارك الخاسرة ؛ فيُهلِكونه ويُهلِكون سائر الناس معه ، أما هُم ؛ فلهم طرقهم وأساليبهم وسراديبهم ما يُمَكِّنهم من النجاة . ولكن ما العمل ؟! نريد حلا . فهل لنا من خروج من هذا الباستيل الكبير الذي تعطلت فيه حياتنا ، وانطفأت في سمائه أقمارنا ، ولم يبقَ فينا شيء حي ، ونقص كل شيء فينا إلا أحزاننا وأحزابنا التي زادت وفاضت إلى حد أصبح فيه بهلوانات السياسة ينتمون لأكثر من حزب سياسي ، وإنهم ليحتفظون بقبعات مختلفة الألوان باختلاف الانتماءات ، فتراهم يَتَلَوَّنُون بها حين يلبسونها في المناسبات الوطنية وفي المحافل السياسية ،وحين تُنتَصَب صناديق الاقتراع لطواف الناس حولها لتخزين أصواتهم فيها .
لقد تحوَّلت القضية الفلسطينية إلى بقرة حلوب ، ونشط اللوردات والنبلاء الفلسطينيون يسارعون إلى السرقات والنهب الشرعي ! ، فانحرفت البندقية الفلسطينية في تصويبها بأمر المصلحة الحزبية إلى الصدر الفلسطيني وأحيانا إلى ظهره ، ولا شيء يمنع من إراقة دمه باسم الشرع والشرعية ، فحيثما تكون المصلحة الذاتية يكون التشريع . إذن القضية ليست الآن قضية تحرير ، وإنما هي قضية تمرير إرادة وفرض القوة للسيطرة على الحُكم والمعابر وتقاسم موارد المال وصَوْن الأتباع ، واستجماع المتفرقات من صنوف الزعامة في اليد الحزبية الواحدة ، وأما عن الشعب الغلبان فلا تسأل ، فليهلك وليذهب في ستين داهية ! ، لا يهم ، المهم بقاء الأمراء والقادة على سُدة الحُكم يتربعون على كراسيهم ، يتنازعون الأمر فيما بينهم ويتقاسمون أموال الصدقات ، وطز في الناس ، لأن شعارهم (( الجنة من غير ناس أجمل مداس )) . وما زال جنرالاتنا العسكريون وأمراؤنا السياسيون على صنفين : أحدهما يعمل على دق طبول الحرب من جديد لاستجلاب المزيد من الأحزان في مساحة أرض تضيق بساكنيها . وثانيهما يرجو لقاء الأعداء على طاولة المفاوضات للتسلية بلعب النرد معهم لقتل الوقت . وكلاهما على الحدود ، يحرس التابوت المقدس حتى يرضى عنهم اليهود .
ليت قادة الحرب في بلادي يقرأون عن عظمة تشرشل الذي جنَّب سكان لندن ويلات الدمار التي كانت تَصُبُّها طائرات هتلر على المدينة ، فماذا فعل تشرشل ؟ لقد أفرغ لندن من سكانها المدنيين إلى الجزر والمدن البريطانية البعيدة عن ساحة القتال خوفا عليهم من الموت ، وأبقى في شوارع العاصمة المقاتلين المسلحين ، وكان هو نفسه يجوب شوارع لندن ، يتفقد ويدير سير المعركة في عربة قطار صغيرة . لم يختبئ في سرداب مُحَصَّن تحت الأرض ، بل كان مكشوفا يصول ويجول ليل نهار، يرافقه الجنرالات من أركان قيادته ، ولا يفارقه سيجاره المتوهج كعقله رغم الغارات المحمومة لطائرات هتلر التي ألحقت بالمدينة دمارا كبيرا. وانتصر تشرشل ومَن معه ، ولم تسقط لندن في أيدي الألمان ، فسطَّر التاريخ بماء الورد المعطر لتشرشل حُسنَ قيادته وإدارته ، وانتماءَه لبلاده وشعبه ، وخوفَه على المدنيين من الرجال والنساء والوِلْدان ، الذين لا يستطيعون حيلة على مواجهة الموت الرخيص تحت ركام بيوتهم . ولقد فعلها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر حين خاف على المدنيين العزل ، فرَّحل سكان بورسعيد والسويس إلى المدن الداخلية حتى وصل بعضهم إلى الاسكندرية لتجنيبهم ويلات الحرب وأخطار الغارات الجوية الإسرائيلية خلال سنوات حرب الاستنزاف ، وأبقى فيها الفدائيين المسلحين . فهل ينعم الله علينا في قطاع غزة الفلسطيني برجل عسكري / سياسي مثل تشرشل أوعبدالناصر ، يخاف على المستضعفين من الشيوخ والنساء والأطفال ، ويجنبهم ويلات الحروب غير المتكافئة مع عدو صهيوني وراءه البنتاجون الأمريكي ، وأمامه السكون العربي والسكوت الإسلامي . ومن عجائب الزمان أننا نعلن بعد كل حرب جهنمية أننا انتصرنا ، دون حساب الربح والخسارة في تجارة الحروب ، فتَعُمُّ الفرحة وتقام الاحتفالات والمهرجانات وتُوزَّع الحلوى ابتهاجا بالنصر ، وبالرعب الذي ألقاه المجاهدون في قلوب بني إسرائيل . ومن الشواهد على انتصارنا على عدونا هو ارتفاع عدد ضحايانا من الشهداء والجرحى والأحياء المدمرة بالكامل على رءوس ساكنيها من الأسر المدنية ، واستحداث لاجئين جُدُد ممن كُتبت لهم النجاة ، فولُّوا فرارا من الموت الزاحف عليهم ، يلوذون بأماكن أقل خطرا ، مع أن الجميع يعلم أن أرض القطاع كله كان كتلة من دمار ولهب ونار في محرقة 2014 التي استمرت واحدا وخمسين يوما ، ولا مجير ولا مغيث . وعندما أسكت المصريون الحرب ، تفقد الناس بعضهم بعضا ، فإذا منهم الآلاف ممَن قضى نحبه شهيدا ، ومنهم عشرات الالاف من الجرحى والمكلومين . وإذا بمئات الآلاف من سكان قطاع غزة أصبحوا لاجئين جُددا يُضافون إلى المهجَّرين السابقين الذين يعيشون في العراء أو لا يزالون يسكنون في مدارس الأونروا unrwa أو الكنائس بعد أن تهدمت بيوتهم التي كانت تؤويهم مع أفراد أسرهم ، فخسروا كل شيء بعد ثلاث محارق إسرائيلية خلال خمس سنوات ، تعجز عن احتمال مصائبها أعتى الدول العربية في مثل هذه المدة القصيرة . ولقد تغيرت أحوالنا المعيشية ، وزادت أوجاعنا الحياتية ، فلا رُفع عنا الحصار ولا أُقيم لنا مطار، أمَّا عن الميناء فهو بلا ماء !. وها نحن كلنا نغرق في بحر الظلم والظلمات ، نعيش في سجن كبير لنا فيه عذاب مقيم ، لا نعرف متى تنتهي مدة محكوميتنا حتى نصبر وننتظر اليوم الذي ننال فيه حريتنا . والمظلوم يجد نفسه يضرع إلى الله ويردد بلسانه ما يؤيده قلبه : يا ألله سامحنا يا ألله لأننا نحن من الذين أذنبوا وندموا " وقالوا ربَّنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا " . ربنا خلِّصنا من ساداتنا ولورداتنا وكبرائنا الذين أضلونا وأهملونا وتركونا نهبا للنوازل حيث تنزل الأحزان ساحاتنا ، وتقيم الغربان في بيوتنا المُهَجَّرِ أهلُها . ربنا اصْرِفْ عنا أمراءنا وجنرالاتنا الذين يستدرجون العدو بعدوان جديد علينا ، ولمَّا تندمل جراحاتنا بعد . وسؤالي الأخير أيها القارئ اللبيب - واللبيب بالإشارة يفهم - : نحن ندَّعي أننا مؤمنون بالله ، وندْعوا ونقول يا ألله ، واليهود يدَّعون أنهم مؤمنون بالله ، ويدْعون ويقولون يا ألله . فبرأيك ، مَن منا الصادق في إيمانه ؟ ومَن منا أحق بنصر الله وعونه ؟ ولمن يستمع الله ، ولمن يستجيب سبحانه - حين يضرع إليه كلا الطرفين وقت العسرة ؟ ، ولماذا ؟! ...***
بقلم/ عبدالحليم أبوحجاج