التنمية مقابل التهدئة تساؤلاتٌ مشروعة

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

إنه من حقنا جميعاً، نحن الفلسطينيين والعرب والمسلمين، الذين ننتمي إلى فلسطين وطناً وتضحية، وهويةً وعطاءً، وتاريخاً وعقيدة، في الوطن والشتات، وفي السجون والمعتقلات، وفي المدن والمخيمات، بعد الذي قدمنا وأعطينا على مدى عقودٍ مضت، وبعد سلسلة الحروب والاعتداءات، وأعمال القتل والتصفيات، وسنوات الحصار والحرمان، وسنين القهر والعذاب، أن نفهم ما الذي يجري، وما الذي يتم في الخفاء، بعيداً عن العيون والآذان، وخلف الجدران المصمتة والأبواب المغلقة، بوساطةٍ من أعداء وأصدقاء، ومن غرباء وأشقاء، ومن خصومٍ وحلفاء، كلهم يدلون بدلوهم، ويقدمون اقتراحاتهم، ويقومون بجولاتٍ مكوكيةٍ، معلنةٍ وسرية، يكشف عن بعضها ويعمى على غيرها.
يجب علينا أن نعترف أن هناك شيئاً ما يطبخ ويعد، وأن ثمة صفقة يتم الترتيب لها، وتتهيأ لها وترحب بها عواصم عديدة، عدا عن غزة وتل أبيب، لكن أحداً لا يكشف عنها، ولا يملك القدرة أو الرغبة على بيان تفصيلاتها، وعرض بنودها، لكن المؤكد أن الصفقة جدُ خطيرة، إلى الدرجة التي استدعت فيها الأطراف المبعوث الميت، والوسيط الراحل، الذي أنهى مهامه وحمل ملفاته وطوى متاعه ورحل، ولكنهم استدعوه على عجل، وهو الخبير الخبيث، العارف الحاقد، والمطلع الغادر، الذي يعرف الأسرار، ويحسن فك الرموز وحل الطلاسم، إذ أن العدو الذي يأمنه، قد سلمه المفاتيح، وسمح له بفتح الأبواب الموصدة، وفك الأغلال الموثقة، لظروفٍ هو وهم يعلمونها، ويعتقدون أنه بات عليهم لزاماً أن يغيروا آراءهم، ويبدلوا عقولهم، لتتناسب مع المرحلة، وتتفق مع الظروف والمستجدات لدى الشعب والمقاومة.
ما نعرفه جميعاً، أن الذنب هو ما حيك في الصدر وخاف أن يطلع عليه الناس، فهل ما يجري اليوم هو ذنبٌ ومعصية، وجريمةٌ وخيانة، وفيه ما لا يقوَ أحدٌ على البوح به، أو الكشف عنه، لأنه يؤسس لحقبةٍ جديدة، ويضع بداياتٍ لتاريخٍ آخر، فيه تفريطٌ وتنازل، وفيه تراجعٌ وتخاذل، وسيكون فيه ما لم نكن نقبل، وما كنا ننتقد ونكره، ونعيب ونرفض، كالتقسيم والسلخ والفصل، والاكتفاء بجزءٍ من الوطن والاستقلال به، فآثرت الأطراف التعمية والتضليل، والستر والإخفاء، مخافة الثورة، ومظنة الرفض والمعارضة.
أم أن ما يجري هو محاولةٌ للتخفيف عن المواطنين، ورفع العنت عنهم، وقد أصابهم السقم، وحل فيهم المرض، وسكنهم اليأس، وقد ضاقت عليهم الدنيا التي لم تكن يوماً لهم رحبة ولا فسيحة، بل كانت وما زالت ضيقة وشديدة، وقد وصل الغزيون خصوصاً والفلسطينيون عموماً إلى طرقٍ مسدودة، وجدرانٍ وسدودٍ مصمتةٌ، لا يستطيعون اختراقها أو نقبها، وباتوا جميعاً يحلمون في غدٍ حرٍ لا قيد فيه، ومستقبلٍ واعدٍ لا يتهدده خطر، ولا يتحكم في أبنائهم أحد، بعد أن شعروا أن منهم من يحاصرهم ويضيق عليهم، وأن من أبنائهم من يرفض التخفيف عنهم، بل يسعى للتشديد عليهم.
هي حيرةٌ أصابتنا جميعاً، فبات من حقنا أن نقلق ونخاف، وأن نحذر ونضطرب، وأن نتوقف ونتساءل، فنحن لم ننس بعد جريمة أوسلو، التي أسست لهذا التعقيد المهول، وقادت إلى هذه النهايات المخيفة، وخلقت بيننا نزاعاتٍ وخصوماتٍ، وولدت عداواتٍ وثاراتٍ، وفرطت في حقوق كثيرة، وتنازلت عن ثوابت أصيلة، وغيرت مفاهيم، وبدلت حقائق، ومنحت العدو اعترافاً ما كان يحلم به، وأعطته وجوداً مشروعاً كان سيمضي العمر كله ولن يحققه، ومكنته على الأرض استيطاناً فيما كان يحلم ويتمنى.
هل نظن أنفسنا أذكى من العدو وأشد مكراً، أو أننا أدهى منه وأمر، وأننا نستطيع تضليله وخداعه، وأننا سنأخذ منه بالمفاوضات غير المباشرة، ما عجز غيرنا على الحصول عليه منه بالمفاوضات المباشرة، وأننا بالسنوات الثمان أو العشر سنحقق ما عجز عن تحقيقه السابقون في السنوات التي تجاوزت العشرين، وأن العدو الذي ماطل سنين طويلة، فإنه سيخضع بالتهدئة مرغماً، وسيسلم بالهدنة مكرهاً، وسينفذ بنود الاتفاقيات، وسيلتزم ما سيوقع عليه، وسيحترم العقود وسيقدس المواعيد.
لا أريد أن أنفي أبداً حاجة أهلنا في قطاع غزة، ولا أن أتنطع بالرأي، وأتشدد بالموقف، وقد صدق المثل القائل "ليس من يعد العصي كمن يذوقها"، والقليل منا من يعد العصي، ولكن الكثير يشاهدونها ويصمتون، وأهلنا في قطاع غزة هم المحاصرين المعنيين المعذبين المضطهدين، الذين يدفعون الضريبة، ويؤدون عن الأمة الواجب، ويخوضون نيابة عنها الحروب، ويتصدون بصدورهم العارية حراب العدو الباغية، ويقبعون في سجونه البعيدة ومعتقلاته القاسية، فهم أصحاب الحق في الحديث، وهم الذين يملكون حق النقد والاعتراض، والقبول والاستحسان، ذلك أنهم على الثغور يرابطون، وفي الأرض المباركة يسكنون، وبدمائهم يضحون، وبأرواحهم يفرطون، وهم الذين على فراش المرض والحاجة والجوع يموتون، وبالطلقة والصاروخ والقذيفة يقتلون.
لكننا إلى هذا الشعب ننتسب، وإلى هذا الوطن ننتمي، فمن حقنا أن يكون لنا رأي وموقف، وأن ننصح أهلنا وننور شعبنا، ونبين لهم سبيل الحق وطريق الرشاد، فما قد نراه قد عُمِّيَ عليهم، فإنه قد يكون جلياً عندنا وواضحٌ لنا، والأهداف المرحلية تُلغى إن تعارضت مع ثوابت الأمة الاستراتيجية، والبحث عن الدور والمكان لا ينبغي أن يكون فوق اللهب أو في عين الفرن، والرد على المتجاهلين والمتآمرين لا يكون بالبحث عن الدفء لدى العدو الأصيل والخصم المبين، والجرح وإن غار، والقيد وإن انغرس، والدم وإن نزف، فإنه لا يستعجل النصر، ولا يقنط من الفرج، ولا يدفع إلى التنازل والتفريط.
لكننا لأجل الشعب وتخفيفاً عنه، واستجابةً إلى حاجته، وتلبيةً لمطالبه الإنسانية، ونزولاً عند رغبة بعض أهله، فإننا نجيز أي اتفاقٍ صريحٍ وواضحٍ، مكشوفٍ بلا ملاحق سرية، ولا تفاهماتٍ شفوية، يقوم على القوة، ويبقي على المقاومة، ويحافظ على ثوابت الشعب والأمة، فلا يتنازل ولا يعترف، ولا يفرط ولا يسلم، ولا يمنح العدو كسباً غير الهدوء، وإنجازاً غير الهدنة، بينما تبقى البندقية حاضرة، والتجهيز قائماً، والتدريب متواصلاً، والاستعداد والجهوزية في أعلى مراتبها، ولا يستبدل بها خيارٌ آخر، إذ لا شئ كالمقاومة حافظاً للحقوق، وقاهراً للأعداء، ومخيفاً للخصوم، فهي التي تحقق التوازن وتخلق الردع، وتصنع الكرامة وتحقق العزة، وقد جربناها وبها نثق، وإليها نركن وبوعدها نصدق.
لكن التفرد عيب، والهيمنة مرض، والتسلط رذيلة، والتعمية ضعف، والإحساس بالقوة غرور، والاعتداد بالتفوق خطر، والاستعلاء بداية السقوط، ونحن بجمعنا أقوياء، وباتفاقنا أشداء، وما يقوَ العدو على انتزاعه منا متفردين، يعجز عن الحصول على بعضه منا متحدين، والعدو الذي يصارح شعبه يقوى، وعليه يستند، وبه يتحجج، وبمصالحه يتعذر، وإننا منه لأحوج أن نركن إلى شعبنا المجرب العنيد، وأن نصارحه بالحقيقة ونزوده بالمعلومة، وأن نأخذ برأيه ونصر على موقفه، فهو من صنع لنا النصر، وهو من قادنا إلى هذا البر، فلا نتخلى عنه ولا نركنه جانباً، ولا نهمل رأيه ولا نستخف بعقله، فإنه لقادرٌ على النصح والمشورة، قدرته على الغضب والثورة، وإنه ليتمنى التهدئة ويحب التنمية، لكن أبداً ليس على حساب الحق والمقاومة والأمانة.

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 18/8/2015
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]