الفوضى الخلاقة في المؤسسة الفلسطينية..!!

بقلم: أكرم عطا الله

لا أحد يعلم ما الذي يفعله الرئيس وبماذا يفكر، فالخطوات الدراماتيكية التي تتوالى تباعاً مع حجم التسريبات التي يتم تداولها تزيد المشهد غموضاً، هل تلك الخطوات هي تمهيد لمغادرته المشهد السياسي؟  ربما ..ولكنه احتمال ضعيف في ظل سيطرته المطلقة واصراره على متابعة تركيب التفاصيل، أم أن تلك الخطوات ومنها الاستقالة تنذر باستمراره وبعودة أقوى على رأس الحكم وتركيب المؤسسة بما يتلاءم مع ذلك التواصل؟ ربما ...ولكنه احتمال ضعيف أيضاً إذن نحن أمام احتمالات معقدة يصعب الحسم بينها.

ما يجري هو عملية فك وتركيب لجسد منظمة التحرير الفلسطينية في ظل عدم القدرة على إعادة تركيب السلطة التي باتت حركة فتح بعد آخر انتخابات هي جزء منها وليس كلها وأن إعادة تركيبها أصبحت تدخل به عوامل خارج ارادة الحركة فهناك شركاء جدد لكن المنظمة بقيت في إطار الممكن لأن قدرة الشركاء فيها على التأثير محدودة للغاية إذا لم نقل معدومة.

من الصعب القول أو الجزم بأن استقالة الرئيس مقدمة لمغادرته الحلبة السياسية كما تقول المواقع الاسرائيلية، حتى وإن وصل برنامجه حد الاصطدام بالجدار كما هو حاصل وقد تعرض للخذلان من الولايات المتحدة للمرة الثانية، فقد كانت الأولى عندما كان رئيساً للوزراء حين تركت الولايات المتحدة لشارون المجال لوضع كل العراقيل في وجه حكومته وصولاً لاسقاطها ولم تطلب من رئيس الوزراء الاسرائيلي حينها رفع حاجز واحد في الضفة الغربية، هكذا قال لي عندما التقيته في مكتبه في اليوم التالي لتقديم استقالته وسألته: من الذي أسقط حكومتك ؟ قال: "الولايات المتحدة وإسرائيل"، بالرغم مما بدا من هجوم لحركة فتح ولجنتها المركزية حينها ضد الحكومة التي لم تكمل مائة يوم من عمرها.

لكنه من النوع العنيد الذي لا ينسحب بسهولة بل يظهر أن ما يفعله هو اللعب بما تبقى من أوراق لديه هذه المرة ضد الولايات المتحدة نفسها ذاهباً نحو خيار شمشون ضد من خدعه مرتين فقد سار في خيار التسوية، اعتقد أن كيري صادق في فرصة الأشهر التسعة ويمكن أن تستخدم واشنطن قوتها ضد نتنياهو إذا ما تلاعب بها لكن الجميع صدم من ضعف البيت الأبيض حينها، وبقي الرئيس يتأمل خديعته بعد أن قدم ما يكفي من التنازل في ملف الاستيطان ليتفاجأ أن الولايات المتحدة تنسحب بسهولة من الملف الفلسطيني نحو الملف الايراني باحثة عن نجاح آخر في قضية أخرى تعوض فيه فشلها وعجزها.

ماذا يعني أن يحرف أبو مازن الدفة فجأة باتجاه ايران وأن يتم طبخ العلاقة على عجل من ترتيبات لزيارة أغضبت حماس بشدة والحديث عن سفير ايراني لدى السلطة سيقيم في عمان أو القاهرة؟ هذا الأمر يأتي قبل أن يصادق الكونغرس الأميركي على الاتفاق النووي مع طهران، وهذا يشكل إحراجاً للادارة الأميركية ويضعف اكثر الرئيس الاميركي أمام نتنياهو على الاقل، فالرئيس الأميركي يعلق مصيره على السابع عشر من أيلول القادم وهو يوم مصادقة الكونغرس وهكذا فإنه يوجه صفعة للادارة الأميركية ويضعف قدرتها على تمرير الاتفاق، وما دامت الادارة أدارت ظهرها له فليكن ما يكون إذن ولتقلب الطاولة.

إن إقالة ياسر عبد ربه أمين سر اللجنة التنفيذية وهو كان له دور بملف العلاقة مع الولايات المتحدة كان يمكن أن يفسر في سياق ذلك الخيار، ولكن تعيين صائب عريقات المسؤول الأول عن ملف المفاوضات أمينا لسر التنفيذية يزيد الأمر غموضاً ويذهب بالتفسير باتجاه آخر يرتبط بموازين القوى وتبدلاتها في الداخل الفلسطيني.

اسرائيل تعتبر أن أحد أسباب غضب الرئيس واحباطه هو قناة التفاوض الجديدة بينها وبين حركة حماس، وأن هذه القناة تتجاوزه بل وتشكل منافساً لمشروعه، وذلك ليس صحيحا لمن يقرأ سياسة بل على العكس من ذلك، فالرئيس هو المستفيد الأول من المفاوضات الدائرة مع حركة حماس لأن أيا من نتائجها بالقطع سيكون في صالحه فإن توصلت إلى اتفاق بين الجانبين فإن ذلك يعني صحة خياره بالتفاوض مع اسرائيل وأن المفاوضات هي الطريق الوحيد لتحقيق انجازات من دولة الاحتلال وأن ادراك حماس لذلك والتسليم به هو انتصار لما كان يقوله دوماً، أما إذا ما فشلت تلك المفاوضات فهذا يعني بقاء خصمه السياسي ممثلاً بحركة حماس تراوح في نفس مأزقها وأن خيارها ليس خياراً عملياً وأن البرنامج الذي روج له الرئيس لسنوات هو الأقل ضرراً بين الخيارات.

كل الآفاق أصبحت مسدودة لا مفاوضات ولا عمل مسلح ولا انتفاضة شعبية والملف الفلسطيني ينزاح جانباً تقزمه كل الأطراف في غزة، فحجم الوسطاء والوساطات يترك الانطباع كأن العالم وجد لنفسه ما يبرئ ذمته من دم وأرض الفلسطيني في قصة غزة ولم يبق حين تنغلق كل الخيارات في وجه الرئيس ولا يبقى سوى خيار الانسحاب فليكن انسحاباً صدامياً يسبقه فك وتركيب المؤسسة بما يثير الغضب الأميركي على سبيل الانتقام ويعيد صياغة العلاقات الخارجية بما لا يتوافق مع السائد الأميركي أو حتى الاسرائيلي في المنطقة، فعودة العلاقات مع ايران تعني أن السلطة باشرت عملياً الاعتراف برفع الحصار عن طهران قبل حتى مصادقة الكونغرس وفي ذروة الصراخ الاسرائيلي بالتحذير من تلك الدولة المعادية لها بامتياز.

لكن اللغز المحير لماذا يسارع الرئيس بعقد جلسة المجلس الوطني الشهر القادم قبل مؤتمر حركة فتح المزمع عقده في تشرين الثاني؟ فقد عجل تقديم استقالته مع أعضاء اللجنة التنفيذية ليتمكن من عقد المجلس الوطني بثلث الأعضاء وهي سابقة هي الأولى من نوعها ألم يكن الأجدر أن تتم اعادة تركيب المنظمة بما يتوافق مع مخرجات مؤتمر حركة فتح وأعضاء مركزيتها الجدد فقد تنتخب الحركة قادتها الجدد لعضوية اللجنة التنفيذية الجديدة لكنّ في الأمر شيئا ما.

هي الفوضى الخلاقة إذن لاحداث حركة كبيرة وغبار كثيف فالاستقالة والمجلس الوطني المفاجئ والحديث عن مغادرة الرئيس ربما تسريب متعمد رغم حالة الاحباط هدفها ارسال رسائل التحذير لمن يهمه الأمر، وإذا لم تتلق الأطراف الرسالة ربما تبدأ بعدها خطوات تذهب بهذا الاتجاه باتجاه الانسحاب من المشهد ولكن برياح معاكسة تماماً للسفن الدولية والأميركية التي تجوب البحار والمحيطات تاركة الوضع الفلسطيني يغرق أكثر في بحر الاستيطان بعيداً عن بر الدولة التي وعد الجميع بها، قد يكون خيار الصدام مع الولايات المتحدة وهو خيار مكلف، لكن يبدو أن السياسة الفلسطينية وصلت إليه مرغمة بعد تكرار الخذلان فهل ذلك ما يحدث؟ وهل هذا ما يفكر به الرئيس؟ ربما ..!

أكرم عطا الله

23 آب 2015

[email protected]