إنها مهمةٌ واحدة لا تختلف في وسائلها وسبلها، ولا في أهدافها وغاياتها، ولا في أدواتها والقائمين عليها، وإن بدت غير ذلك، وظن البعض أنها ليست في ذات النطاق المشترك، وأن المقارنة بينها ظلمٌ وتعسف، وافتئاتٌ وتجني، لكن الحقيقة أنها تؤدي نفس الغرض، وتصب في ذات الاتجاه، وتحقق النتيجة المحتومة، وتستهدف ذات الفئات والشخصيات، وأحياناً يكون الإشراف على بعض المهام مشتركاً، أو أن الأوامر تصدر عن هيئةٍ موحدةٍ، وتنسيقٍ مشترك، لتقاطع المصالح أو توافق الأهداف، ولذا فإن وضعها في تصنيفٍ واحدٍ لا يجافي الحقيقة، ولا يخالف المنطق، طالما أن نتائجها واحدة.
العدو الإسرائيلي بجيشه ومخابراته وكل مؤسساته، كان ولا يزال يتطلع إلى القضاء على حيوية الفلسطيني، وقتل الروح الوطنية فيه، وإحباطه ومحاربة أي نوازع للمقاومة عنده، وإضعاف قدراته على الصمود والثبات، وهز ثقته بنفسه وبقيادته، ونزعه من وسطه وإبعاده عن محيطه، وإشغاله بنفسه وأسرته، وبحياته ولقمة عيشه، وإغراقه بهمومه ومشاكله، وحاجاته ومصالحه، وتوريطه في أزماتٍ وإغرائه في صفقات، لئلا يكون له دور في المعركة، ولا مساهمة في المقاومة.
هَمُ العدو دائماً أن يزيح هذا المواطن الفلسطيني من طريقه، وأن يبعده عن مشاريعه ومخططاته، وأن يقصيه عن الجبهة والميدان، فهذا الإنسان الفلسطيني البسيط في حياته، العظيم في إيمانه، هو عنوان الصراع وأساسه، وأداته وسلاحه، وهو هوية الأرض وعماد الوطن، وهو الأمل الباقي والإرث المصون، وهو المسكون بالوطنِ والمهموم بالمقاومة، يتطلع بعيونه إلى أرضه ومقدساته محررةً ومطهرة، مهما كانت الكلفة والضريبة، والتضحية والفداء، فالغاية عنده سامةٌ ونبيلة، وغاليةٌ ونفيسة.
العدو الصهيوني يخاف هذا الإنسان الفلسطيني، ويخشى من يقينه وعناده، ومن ثباته وصموده، ومن جلده وصبره، ومن مقاومته وتضحيته، ومن ولائه وصدقه، بل إنه يخشى الطفل الصغير والشيخ الكبير والمرأة العجوز، لهذا فهو يبحث جاداً عن كل السبل التي من شأنها التخلص منه، ومنعه من المشاركة في المقاومة، أو تعريض أمن كيانه ومستوطنيه للخطر، لأنه يعلم أن هذا الفلسطيني موجعٌ في قتاله، وماضٍ في مقاومته، وشرسٌ في مواجهته، فلا ترده خطوب، ولا تمنعه صعابٌ، لذا فهو يلجأ دائماً إلى وسائل قديمةٍ معروفة، قد اعتاد عليها المستعمرون القدامى، وحدثها وطورها المستعمرون الجدد، والصهاينة من بعدهم.
غاية العدو الإسرائيلي هي التغييب، وإبعاد الفلسطيني عن ساحة المواجهة، وتعطيل قدراته وإمكانياته، وإحباط محاولاته للمساهمة في المعركة، فعلاً في الميدان، أو تأثيراً في الجمهور، أو توريثاً للأجيال، فالقضاء على الإنسان الفلسطيني روحاً وجسداً ومعنى هو عندهم غاية وهدف، وهو الطريق الذي يقودهم إلى غاياتهم ويحقق أهدافهم، لأنه هو العقبة والعثرة، وهو المعيق والمعطل، إذ لا قيمة لحجرٍ أو شجرٍ دون أن يكون معهما وإلى جانبهما بشرُ يعطونهما القيمة، ويمنحونهما الرمزية، ولهذا فهم يعمدون إلى القتل والتصفية الجسدية، أو الاعتقال الطويل المدى والمتكرر، أو الإبعاد والطرد، والترحيل والنفي.
شئنا أم أبينا فإن سياسة الفصائل والتنظيمات الفلسطينية تتشابه مع السياسات الإسرائيلية، إذ أنها تقود إلى ذات النتيجة، وتحقق ذات الغرض، فهي تعمل بجدٍ لتعطيل طاقات الشعب، وعقر أحصنته الرابحة، وتحييد قواه الفاعلة، وشل قدراته المتوثبة، وحصر الفعل والعطاء، والعمل والمقاومة، في مجموعةٍ تختارها القيادة وترضى عنها، وفق معاييرها الخاصة، وحساباتها الشخصية، التي تقوم على الحب والولاء، والتأييد والتبعية، في الوقت الذي تستثني فيه الطاقة والقدرة، والصدق والإخلاص، والرغبة والأمل، والحق والواجب، وتفضل عليها معايير زائفة، ومقاييس مشوهة، لا تحقق الغرض، ولا تصل بالشعب والوطن إلى الغاية المنشودة والأمل المرتقب.
الأجهزة الأمنية لهذه القوى والتنظيمات مشغولةٌ بشئٍ آخر غير المقاومة، وملتهية بأمور لا تتعلق بالمصالح الوطنية، رغم أن مهمتها الأولى والأساس هي حماية الوطن، والسهر على مصالح الشعب، والاهتمام بشؤون التنظيم التي يجب ألا تتعارض مع شؤون وهموم الشعب، بل تتكامل معها، وتتفق وإياها.
كثيرون هم أولئك الشهداء الذين سقطوا غيلةً على أيدي العدو الصهيوني وأدواته، في فلسطين وفي عواصم عربيةٍ عدةٍ، فما تمكنت هذه الأجهزة العتيدة من كشف خيوط جرائم الاغتيال، ولا استطاعت أن تضع يدها على الفاعلين، ولا أن تعرف كيف تمت هذه العمليات، ولماذا تتكرر، رغم أنها تمتلك أجهزة حديثة، وتحوز على تقنيةٍ كبيرة، ولديها ميزانياتٌ هائلة، وتحت تصرفها وسائل وإمكانياتٍ مهولة، بل إنها دوماً تفشل في حماية الأشخاص المطلوب حمايتهم والدفاع عنهم، ولا تقوم بما يحميهم ويمنع الخطر عنهم، هذا إذا لم تكن أحياناً معنية بغياب البعض، وحريصة على استشهاد آخرين، حقناً للدم، أو منعاً للفتنة، أو تحقيقاً لغرضٍ ما في نفوسهم.
تسعى هذه الأجهزة بتوجيهٍ ورعايةٍ من قادة التنظيمات ورؤساء الأجهزة، إلى تطويع الآخرين وضبطهم، واحتوائهم والسيطرة عليهم، وإضعافهم والتأثير عليهم، تمهيداً لطردهم أو إقصائهم، أو تسخيرهم وتوظيفهم، وتستخدم في سبيل ذلك كل الطرق الملتوية والمشبوهة، والمحرمة والممنوعة، والمرفوضة شرعاً والمنبوذة عرفاً، فلا تجد بأساً في التنصت على الأشخاص وتصويرهم، واقتحام حياتهم الخاصة والأسرية، ودس العيون بينهم، أو زرع الأجهزة الحديثة في بيوتهم وسياراتهم، وفي مكاتبهم وأماكن عملهم، ولا يغيب عنها محاولة إسقاطهم والإيقاع بهم، وتعريضهم للفتن والأخطاء، كي يكونوا بين أيديهم ورقةً طيعةً، وأداةً سهلة، فلا يملكون القدرة على رفض التعليمات أو مخالفة الأوامر، فتحبط النفوس، وتقتل الطاقات، وتعطل الكفاءات، وتهرب المخلصين، وتقصي الراغبين في العمل، والمستغرقين في العطاء، ما يجعلها تتشابه مع العدو وتتفق.
علماً أن هذه الأجهزة الأمنية في أغلبها مخترقةٌ وغير نظيفة، ويعمل فيها أناسٌ مجهولون، لا تعرف أسماؤهم الحقيقة، ولا بلداتهم الأصلية، ولا شئ عن حياتهم الخاصة، وبياناتهم مجهولة، وصورهم غير معروفة، وتحركاتهم مشبوهة، وتنقلاتهم غامضة، يظهرون فجأة ويغيبون عن الصورة دون سابق إنذار، مجتمعهم مغلقٌ غريب، يقوم على الطلاسم والأسرار، وفيه أبوابٌ موصدةٌ وغرفٌ مغلقة، لا يدخله غيرهم، ولا يعمل فيه إلا من كان مثلهم، من مرضى النفوس وخائني الأعين، ممن يدسون في الصدور، ويوغرون في القلوب، وهم يحسنون التخلص من كل شئٍ، وإزالة كل أثر، فلا وجود بينهم لمخالفٍ أو معارض، وإلا فإنه يعرف أثر السم الذي يستخدمه، والسلاح الذي في وجه الآخر يشهره، وما عليه إلا أن يمضي حتى النهاية صامتاً أو متآمراً، وإلا فإن حتفه سهل، والتخلص منه ممكن.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 26/8/2015
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]