لا أحد من الأسرى والمعتقلين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية قد نجا أو أفلت من العزل أو من السجن الانفرادي، في الزنازين الضيقة أو في الإكسات البعيدة، في السجون الصحراوية أو الداخلية، بل يكادون جميعهم، السابقون والحاليون واللاحقون من بعدهم، قد تجرعوا من هذا الكأس وذاقوا مرارته، وعانوا من ويلاته، ونالهم منه نصيبٌ وافر، وغصت به حلوقهم، وتألمت نفوسهم، وتقرحت من جدران الزنازين أجسادهم.
ولكن سلطات السجون الإسرائيلية التي تساوي بين المعتقلين في عقابها، ولا تميز بينهم في سياساتها القاسية، ولا تراعي سجيناً ولا تتألم لمعاناة معتقل، ولا تتردد في عقاب الضعيف والمريض، والكبير المسن والمرأة الحامل، والطفل الصغير وذوي العاهات المستديمة، إلا أنها أحياناً تخص بعض الفئات من الأسرى والمعتقلين أكثر من غيرهم، فتعاقبهم دائماً، وتعزلهم أبداً، وتجدد عقابهم، وتطيل فترة عزلهم، وتشدد حبسهم، وتغلو في التعامل معهم، ولا تصغي إلى طلبات إعادتهم إلى أقسامهم، ولا تتأثر بالدعاوى المرفوعة ضدهم، أو بالاحتجاجات الشعبية المنظمة استنكاراً ورفضاً لسياستهم.
لعل العزل الأكثر خطورة، والأطول مدة، والمقصود دائماً، هو العزل الذي يطال رموز المعتقلين، وقادة العمل الوطني داخل السجون، وهم كثيرٌ جداً على مدى سنوات الاحتلال منذ النكبة وحتى اليوم، الذين يشكلون حسب رأي المخابرات وإدارة السجون خطورةً على الأمن القومي الإسرائيلي، نظراً لقوة شخصيتهم، وعظيم تأثيرهم، ودورهم الوطني الكبير في رفع الروح المعنوية للمعتقلين، وعنادهم في مواجهة إدارة السجون، وتصديهم لسياستها، وتصدرهم للأنشطة النضالية كالإضراب عن الطعام، وحالات العصيان والتمرد، فضلاً عن إحيائهم الدائم للمناسبات الوطنية والدينية، التي تثير الحماس وتحض على الوطنية، الأمر الذي يجعل من وجودهم بين بقية المعتقلين مغامرة خطرة.
لهذا تحرص إدارة السجون على عزلهم فرادى وبعيداً في زنازين ضيقة، لأشهرٍ أو لسنين طويلة، يكونون فيها أحياناً رغم العزل مقيدي الأيدي والأرجل، أو مقيدين بسلاسل معدنية إلى حلقاتٍ مثبتة في جدران الزنازين، بقصد عزلهم وفصلهم عن بقية الأسرى، ومنع اختلاطهم معهم، أو الاجتماع بهم ولو صدفةً، وذلك للتخفيف من أثرهم، ومنع انتقال خبراتهم، وتعميم تجاربهم، وصقل شخصيات بقية الأسرى والمعتقلين، بما يجعلهم أقوياء أكثر، وأشداء في مواجهتهم والصمود أمام سياساتهم، خاصةً أن هذه القيادات تعتقد أنها تحمل رسالة، وعندها أمانة يجب أن تؤديها مهما كانت التحديات صعبة، والعقوباتِ شديدةً ورادعة.
يتم عزل هذه الفئة من الأسرى بعيداً عن المعتقلين، ولا يسمح لهم بالتواصل معهم، أو الالتقاء بهم، ويقتصر احتكاكهم على الجنود والحراس الإسرائيليين، الذين يقومون بحراستهم ومراقبتهم، ويحضرون لهم وجبات الطعام الثلاثة، دون أن يسمحوا لأحدٍ من المعتقلين العاملين في المطبخ أو في أعمال النظافة بالاحتكاك بهم أو الحديث معهم، كما تمنع زيارتهم ولقاء المحامين بهم، وغالباً ما تقوم إدارة السجون بوصفهم بأنهم سجناء خطرين، وتثبت هذا الوصف في قوائم الإحصاء اليومية، ليطلع عليها كل من يقوم بعملية عد وتفقد الأسرى والمعتقلين، وفي هذا إشارة إلى جواز معاقبتهم، وضرورة التشديد عليهم.
لكن عمليات عزل قادة ورموز العمل الوطني الفلسطيني وإن كانت لا تتوقف على مدار الساعة، حيث لا تخلو الزنازين من وجود بعضهم مقيدين بعيداً في زنازينهم، فإن شموخ المعتقلين وصمودهم يتعاظم داخل السجون ويزداد، وإرادتهم تكبر وتشتد، مما يزيد في قهر السجان، ويضاعف حقده وكرهه، ويدفع به للثأر والانتقام منهم، بزيادة الحرمان، ومضاعفة العقاب.
أما الفئة الثانية من المقصودين بالعزل في السجون، فهم المعتقلون الأطفال وصغار السن، حيث تعمد إدارة السجون إلى زيادة جرعة تعذيبهم، فتطيل فترة عزلهم في الزنازين الانفرادية وإكسات العزل الضيقة والبعيدة، وتسمعهم خلال الليل أصوتاً غريبة لعمليات تعذيبٍ قاسية، وأصوات صراخ وبكاء واستنجاد واستجداءٍ وضرب وركل وغير ذلك مما يخيف الأطفال، ويذهب النوم من عيونهم، ويجبرهم على البقاء طوال الليل يقظين دون نوم، خائفين من استدعائهم، وأن يصيبهم بعض العذاب الذين يسمعونه في الليل.
تدرك المخابرات الإسرائيلية وإدارة السجون مدى ما يتركه العزل على الأطفال، وأنه يؤثر على حياتهم ومستقبلهم بصورة كبيرة، إذ يتولد عن حالة العزل لديهم أمراضٌ نفسية مستعصية، تلازمهم طوال حياتهم، إذ أن الطفل وهو الأسير الذي لم يتجاوز عمره الثمانية عشر عاماً وفق التصنيفات الدولية، لا يستطيع أن يتحمل أجواء العزل والسجن الانفرادي، وحرمانه من مخاطبة أو الاختلاط بالأسرى الآخرين، الذين يلعبون دوراً كبيراً في التسرية عنه، والتخفيف من آلامه، وتثبيته وتشجيعه خلال فترة الاعتقال، ومساعدته إن تعرض لكآبةٍ أو أصابه مرض، أو حلت به أزمة، بينما عزلهم يتركهم نهباً للهواجس والأفكار المرعبة، ويضعف مقاومتهم وصمودهم أمام المحقق وضباط المخابرات.
أما الفئة الثالثة الخطيرة المستهدفة بالعزل فهم النساء، حيث تتعمد المخابرات الإسرائيلية عزل الأسيرات الفلسطينيات، وتجبرهن على العيش في زنازين ضيقة جداً، معزولة عن بقية الأسرى والمعتقلين، وتستغل المخابرات الإسرائيلية حالة العزلة التي تعيشها الأسيرات خلال التحقيق وما بعده بعيداً عن العالم الخارجي المحيط، فلا يعرفن ما يدور حولهن، ولا ما يجري في مناطقهن، ولا ماذا حل بأهلهن وأفراد أسرهن، ومن هو الموجود معهن في التحقيق، وغير ذلك من المعلومات التي تتعمد إدارة المخابرات الإسرائيلية إخفاءها عن الأسيرة، في الوقت الذي تزودها بما شاءت من المعلومات التي تخدمها في الضغط عليها نفسياً، بما يضعف إرادتها، ويوهن عزيمتها، ويثير في نفسها القلق والخوف، ويقضي على قدرتها على التفكير والتركيز والتصميم، ليسهل عليها بعد ذلك التحقيق معها والضغط عليها أكثر من ذلك.
كما أن الأطفال المواليد يعاقبون مع أمهاتهم أحياناً، إن بكوا وصرخوا من الجوع أو الألم، أو نتيجة الجو الخانق الضاغط، فإنهم وأمهاتهم يعاقبون ويعزلون في الزنازين والإكسات بعيداً عن الغرف والأقسام، بسبب بكائهم وصراخهم وأحياناً بسبب مرضهم، نتيجة عدم قدرتهم على النوم بسبب الحر الشديد، أو الرطوبة وانعدام التهوية، أو بسبب نقص غذائهم من حليب الأطفال وهو غالباً ما يحدث، أي أنهم أسرى كغيرهم يعزلون ويعاقبون رغم أنهم أطفالٌ ومواليد.
أما إن قامت أسيرة بتقديم شكوى ضد أحد الحراس أو رجال الشرطة، متهمةً إياه بالتحرش بها جنسياً، ومحاولة الإساءة إليها، فإن إدارة السجن تقوم بعقابها ونقلها إلى زنزانة في قسمها في قسمٍ آخر، أو تنقلها إلى إكسات العزل مدة من الزمن عقاباً لها على جرأتها وطلبها التحقيق مع أحد الحراس، وقد تلجأ أحياناً إلى نقلها إلى سجنٍ آخر، في منطقةٍ أخرى بعيدة.
أما الصنف الرابع من الأسرى المستهدفين بالعزل، فهم العلماء والأسرى العباقرة، وذوو الأدمغة الجبارة، الذين يستطيعون تعليم الأسرى وتثقيفهم، والتأثير عليهم ورفع مستواهم العلمي والثقافي والمعرفي، حيث تلجأ سلطة السجون إلى تطبيق سياسة العزل والتفريق المنهجية ضدهم، بقصد تعطيل مسيرة التعليم والثقافة داخل السجون والمعتقلات، فتعزل الأساتذة الأسرى، وأصحاب الكفاءات العلمية، وتبعدهم عن الأسرى المؤهلين للدراسة، بما يضمن لها عدم استفادتهم من علمهم وثقافتهم.
الأسر لم يتوقف والعزل لن يتوقف، وفئاته والمستهدفون به يزيدون ولا ينقصون، ويتعددون ويتنوعون، وعقلية الإسرائيليين لم تتبدل ولم تتغير، ونفوسهم المريضة الخبيثة لم تشف ولم تطهر، ولكن إرادة الفلسطينيين وصمودهم لن تضعف ولن تتزعزع، ويقينهم في قضيتهم لن يتراجع مهما بلغت قسوة التعذيب وتعددت وسائله، فسيبقى الفلسطيني يقبض على جمر حقه، ويعض على جرح ألمه، ويربط على الجوع بطنه، صابراً محتسباً حتى ينال حقه، ويستعيد أرض وطنه حراً سيداً مستقلاً.
يتبع ....
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي