مع اشتداد الأزمة وانغلاق الخيارات أمام الفلسطينيين واستمرار الحصار على القطاع وتراجع اهتمام العالم بالفلسطينيين والقضية الفلسطينيين مع اشتعال أزمات التوتر في المحيط من سورية إلى اليمن وموجات المهاجرين التي أشغلت الري العام في أوروبا في الأسابيع الأخيرة ينبغي البحث عن أفق جديد يفتحه الفلسطينيون بأنفسهم وإلا حكموا على أنفسهم وقضيتهم بالموت طوعا وبمحض إرادتهم.
لم نحقق نجاحات كبرى لا بالمفاوضات التي انتهت بصفر كبير وإن كانت المراهنة فيها على كشف إسرائيل في لعبة العلاقات العامة أمام العالم، ولكن يبدو أن هذا العالم لا يعنيه سوى مصالحه وهو أقل شجاعة من أن يتخذ موقفا بل بالعكس هو الآن في مرحلة استرضاء إسرائيل بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران، وكذلك لم نحقق نجاحات كبيرة بالعمل المسلح، إذاً، خياراتنا بحاجة إلى إعادة النظر فيها وإن راهنا أيضا على أن العمل المسلح سيحدث تغييرا في الداخل الإسرائيلي بعد الخسائر التي مني بها وسيطالب بحل سياسي لكن ذلك لن يحدث.
إذا، ينبغي التفكير خارج الصندوق واستحداث خيارات ربما تكون أكثر جدوى فليس من الطبيعي أن نكرر نفس التجربة لنتوقع نتائج جديدة، ففي ذلك مغامرة بمستقبل شعب لا يحتمل التجارب أكثر، فماذا يعني أن تكون لاجئا بعيدا عن أرضك التي طردوك منها كيلومترات بسيطة وأنت محاصر وتنعدم كل ممكنات الحياة؟ هنا الفعل الثوري والفرق بين الاستسلام والتمرد، بين الاستكانة والحركة، بين الخنوع والرفض من أجل حياة كريمة، هذه كانت سمات كل الشعوب التي تحررت بعد أن قررت أن الاستسلام للعدم واليأس.
قبل شهر من الآن كانت أزمة التعليم في وكالة الغوث تنذر بتهديد العام الدراسي وكنا نبدو كالمتسولين بانتظار المانحين الذين يمنون علينا بلجوئنا .. المشهد كان مدعاة لاستفزاز التفكير بشكل أشمل كتبت "هناك حل بضربة واحدة .. أن يذهب مليون لاجئ لاجتياح الحدود مع إسرائيل للعودة لوطنهم لإنهاء قضية اللجوء .. لم تفكر الفصائل بهذا وحينها يمكن أن يفهم العالم ماذا بإمكان الفلسطيني أن يفعل، لماذا لا نفكر بالحلول الكلية؟ فلتفعلها الفصائل .. ألم يعد الموت والحياة يتساويان في غزة؟
إنها دعوة لحل جماعي، وقطاع غزة قادر على تنفيذها بسبب بؤس الحياة حد الانفجار وبسبب قربه من الشريط الحدودي وسكيولوجية الغزيين التي تتميز بالاندفاع حد التهور وفشل الوسائل التي استخدمتها الفصائل في إيجاد حل يتطلب الانتقال لخطوة جديدة ثبت نجاحها وأمامنا مشهد سيول البشر في الربيع العربي التي لم تستطع وقفها أعتى الجيوش ومشهد اللاجئين السوريين الذين يندفعون للموت من أجل الحياة، فلماذا لا يندفع الغزيون للحياة بمئات الآلاف نحو الحدود الشرقية ولماذا لم تفكر الفصائل وهي ترى الفشل في وسائلها بهذا المنطق؟
الدكتور رياض عواد قدم مبادرة للخلاص الجماعي بالزحف نحو الحدود الشرقية لغزة، مستشهدا باجتياح سكان غزة للحدود المصرية بمئات الآلاف وهي مبادرة متكاملة تحتاج إلى التبني من قبل القوى التي تستطيع قيادة الجماهير فهي قوى منظمة قادرة على الحشد، مطالبا أن يذهب الفلسطينيون بعائلاتهم وأطفالهم وشيوخهم للزحف نحو أرضهم .. سيل من البشر يتدفق شرقا يتقدمه الأطفال الذين يئنون من وطأة الحصار والشيوخ والنساء والشباب ولنا أن نتخيل المشهد وقد أثارت مبادرته جدلا كبيرا على صفحات التواصل الاجتماعي، ومؤيدون كثر، أكثرهم ضررا، طالب بالإعداد الجيد قبل التحرك، ماذا ستفعل إسرائيل حينها وهي الدولة التي تراقب كيف يحتضن العالم الحضاري اللاجئين السوريين؟ هل ستطلق النار؟ هل ستقتل الآلاف؟ لقد استشهد الآلاف في ثلاث حروب حتى الآن ولم نجن سوى الدمار والحصار فلماذا لا ندفع ثمن برنامج قد يضعنا نحن وإسرائيل والعالم على المحك؟ .. إسرائيل ستقف عاجزة عن المواجهة ولن تستطع ممارسة القتل بالحملة وبالبث الحي والمباشر ولتفعلها إذا كانت تستطيع وهي تدعي من خلال بعض الأصوات أن إنسانيتها وصلت حد المطالبة باستقبال اللاجئين السوريين .. ها هم اللاجئون الفلسطينيون أقرب وهم يعيشون جحيم الحصار والدمار والعدم.
لقد جهزت إسرائيل نفسها لكل الحروب .. قنابل نووية .. جيش أقوى من الجيوش العربية كما أراد بن غوريون .. ترسانة أسلحة ضخمة وسلاح طيران قوي .. وتفوق في أجيال السلاح .. لكن إمكانية مواجهة سيل من البشر فهذه لم تحسب لها حسابا، ان زحف كهذا وحده الكفيل بتحييد القوة المسلحة الإسرائيلية وهذا لم يجهز جيش إسرائيل نفسه مواجهته ولن يستطيع، ففي حزيران 2011 بعيد الاضطرابات في الإقليم كانت خلاصة ورشة لكبار ضباط الجيش تقول إنه لو بدأ ربيعا في الضفة الغربية لن يستطيع الجيش الإسرائيلي مواجهته وبعدها قامت إسرائيل بشراء مدافع صوتية وقنابل برائحة كريهة وقنابل غاز .. لكن أحد الحاخامات كان أكثر صراحة حين تساءل عن مستقبل إسرائيل حين قال، "لكن ما الذي سيحصل إذا زحف الملايين من الضفة وباقي الحدود"؟ الإجابة لدى الفلسطينيين وهي إجابة قد تشكل حلا لكل أزماتهم... ألم يتعبوا من أن يكونوا لاجئين محاصرين فقراء معدومين بائسين؟
لقد تعبنا من كوننا لاجئين محاصرين بلا أمل ولا أفق ولا مستقبل ولا فصائل قادرة على تحقيق أحلامنا .. تعبنا من كوننا حقل تجارب للهواة من السياسيين القدامى والجدد لم تكن خلاصة تجربتهم سوى تخليد الواقع الكئيب أو جعل الحياة أسوأ وبتكلفة أعلى فماذا لو استمر الحال لعقدين قادمين مثلا؟ ممكن ذلك فالذي كان كل هذه السنوات مرشح للاستمرار فما الحل إذاً؟
هل تكون مفاوضات لا تؤدي إلى دولة واستقلال حلا؟ أم جولات حروب تنتهي بتهدئة ويبقى الحصار وانعدام المعابر والكهرباء والدمار والبيوت المهدمة؟ هناك حل بدأ يلوح في الأفق .. الوعي الشعبي يتنامى لما هو أبعد من برامج الفصائل أنه حركة الشعب الأقوى من كل الجيوش والعروش حين تتحرك سيول البشر فإنها تجرف في طريقها أقوى الجبال فلماذا لا تفعلها؟
الفكرة جديرة بالنقاش وهي تشكل برنامجا قادرا على المواجهة من منطق المعرفة الدقيقة لنقطة ضعف إسرائيل ونقطة القوة الفلسطينية، برنامجا قادرا على توحيد الشعب الفلسطيني في ربيعه الذي تأخر ويخرجنا من ثنائية العجز .. المفاوضات والسلاح التي لم تنجز الكثير بل وكانت مدعاة للانقسام .. برنامجا قادرا على أن يجعل تلك الدولة المدججة تجثو على قدميها .. الفصائل قادرة على تحويلها إلى رافعة للعمل .. وقد تعارضها أو لا تتعاطى معها فصائل لديها برنامج مختلف حتى لا ينكشف عجز برامجها ولكن هذه الفكرة قادرة على تحريك الواقع الأكبر قادرة على استدعاء كل وسائل الإعلام .. قادرة على تغيير حركة التاريخ إذا ما كان هناك إرادة .. وبالتحديد لدى القوى الفلسطينية .. وإذا لم تتبنها على الشعب نفسه أن يمتشق الراية ويشق طريقه معتمدا على ذلك ومخزونه الهائل من المعاناة والتوق للحياة ..!
أكرم عطا الله
13 أيلول 2015