قبل أيام مرت الذكرى الثانية والعشرون لاتفاقية أوسلو المشؤومة، التي أدت إلى الوضع المأساوي الحالي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني. وأبرز مظاهر المأساة الانقسام الحاصل حاليا بين غزة والضفة الغربية.
فغزة بعد أن خاضت أربع حروب بين عامي 2006 و2014 خضع الآن لحصار شامل من البر والبحر والجو تشترك في تنفيذه أياد عربية لسد الثغرات التي لا تستطيع إسرائيل السيطرة عليها. أما الضفة الغربية فقد التهمت أراضيها المستوطنات والطرق الالتفافية والجدار، ولم يبق منها ما يمكن أن يقام عليها أي كيان صالح للحياة. أما بالنسبة للقدس فقد جرت عملية التهويد بوتيرة عالية، وباستخدام عدد من الإجراءات كي تتم السيطرة المطلقة على منطقة القدس الكبرى، التي تشمل منطقة تعادل ثلث الضفة الغربية، من بيت لحم جنوبا ومخيم قلندية شمالا، وصولا إلى البحر الميت شرقا. الحقيقة التي يلمسها كل من يزور فلسطين أن إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة ومترابطة وذات سيادة وقابلة للحياة وعاصمتها القدس الشرقية إلى جانب إسرائيل أصبح أمرا شبه مستحيل، ومن يقول بغير ذلك فهو يخدع نفسه أو يشترك في مؤامرة تعميم الوهم التي أتقنها جماعة أوسلو من تقدم منهم ومن تأخر، عندما بشرونا بأن الاتفاق سيؤدي إلى قيام دولة مستقلة ووقف الاستيطان وإطلاق السجناء ووقف مصادرة الأراضي، وها نحن بعد 22 سنة لم يبق من الأرض شيء تقام عليه الدولة.
حل الدولة الواحدة
إذا انطلقنا من فرضية أن قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل على الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقة أصبح في حكم العدم نسأل السؤال التالي: ما هو البديل؟
كثير من الكتاب والسياسيين طرحوا فكرة قيام دولة واحدة أو دولة ثنائية الجنسية كبديل لحل الدولتين ومن منطلقين مختلفين: المنطلق الأيديولوجي الذي ميز أدبيات الثورة الفلسطنية في بداياته ومنطلق براغماتي حديث يعود لفكرة الدولة الواحدة على أساس أن إمكانية قيام الدولتين أصبح مستحيلا.
لقد كانت حركة فتح أول من طرح فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة، عندما كان مطلوبا منها كحركة تمثل الشعب الفلسطيني وقواه الثورية آنذاك أن تقدم بديلا حضاريا لموضوع تهجير اليهود من فلسطين، في حال انتصار الثورة الفلسطينية. وقيل آنذاك إن هناك يهودا غير صهاينة يريدون أن يعيشوا بسلام مع جيرانهم العرب. فكان حل الدولة الديمقراطية العلمانية التي يتساوى فيها المواطنون جميعا بغض النظر عن أعراقهم وأديانهم وألوانهم هو الأكثر موضوعية، خاصة أن كثيرا من قوى اليسار الأوروبي كانت تقف مع الشعب الفلسطيني وتؤيد ثورته. وقد أعلنت حركة فتح في شهر يناير 1969 رسميا "أن معركتها ليست مع اليهود بل ضد الكيان الإسرائيلي العنصري الثيوقراطي". ثم تبنت منظمة التحرير الفلسطينية هذا الطرح الأيديولوجي في دورة المجلس الوطني الخامس في شهر فبراير 1969، حيث جاء في أحد قرارت المجلس أن هدف منظمة التحرير "إقامة مجتمع حر وديمقراطي في فلسطين لكل الفلسطينيين، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهودا". لقد ظلت فكرة فلسطين الديمقراطية العلمانية، النظرية الرائجة في أدبيات الثورة إلى أن تم التغيير الجذري رسميا عام 1974، عندما اعتمد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشرة مشروع النقاط العشر، الذي كان بداية التراجع عن برنامج التحرير والولوج في أوهام التسوية التي أوصلت الثورة الفلسطينية إلى مأزق أوسلو.
أما الطرح الحديث لقيام دولة واحدة ثنائية الجنسية فهي فكرة براغماتية تختلف تماما عن النظرية الأولى، وتقوم أساسا على أن إسرائيل الصهيونية وفلسطين العربية تعيشان تحت سقف واحد، كل يدير شؤونه بنفسه ويشتركان في الاقتصاد والمشاريع والتنمية والبيئة وغيرها، ولكن لكل كيان نظامه التعليمي والقضائي والتشريعي على طريقة البوسنة والهرسك، أو على طريق تشيكوسلوفاكيا سابقا، التي جمعت شعبي التشيك والسلوفاك في دولة واحدة. وقد بدأ بعض الأكاديميين في الولايات المتحدة وبريطانيا بطرح الفكرة، بعد أن تأكد للجميع أن المستوطنات قد منعت وإلى الأبد قيام دولة فلسطينية مستقلة، وأن شرط قيام الدولة هو تفكيك المستوطنات كليا، وهو أمر غير عملي، خاصة أن هناك كتلا استيطانية كبرى تحولت إلى مدن كبيرة، لاسيما معالية أدوميم شرق القدس وبيسغات زيف شمال القدس وأرييل قرب نابلس وكريات أربع قرب الخليل. وقد عادت رموز أوسلو وتقبلت فكرة بقاء هذه الكتل في مكانها مقابل تبادل الأراضي وكان أحد هؤلاء الرموز يتذاكى عندما يعلن وهو يرفع سبابته إشارة للجدية "تبادل أراضٍ مساوٍ في المساحة والقيمة".
نشر الأستاذ البريطاني اليهودي الماركسي بجامعة نيويورك، توني جادت، عام 2003 مقالا أثار كثيرا من التعليقات تحت عنوان "إسرائيل: البديل" قال فيه إن إسرائيل في طريقها لتكون دولة عدوانية متعصبة وتعتمد في هويتها على انتماء ديني معين، وهي تعيش الآن مفارقة تاريخية، وأن حل الدوليتن قد فشل ولم يعد حلا عمليا قابلا للتطبيق، وأن الحل الصحيح والعملي هو الدولة الواحدة ثنائية الجنسية، بحيث يتساوى العرب واليهود في الحقوق والواجبات. كما كتب مقالا في جريدة "هآرتس" عام 2006 بعنوان "الدولة التي لا تكبر" يشير فيه إلى أن مصداقية إسرائيل تتآكل وأنها في حالة انحدار متواصل منذ حرب عام 1967.
وقد بدأت المقالات والكتب وصفحات الرأي في الصحف تعمم فكرة قيام الدولة الواحدة ثنائية الجنسية. ومن أهم من أيد الفكرة الأكاديمي المشهور جون ميشماير الذي كتب بمشاركة ستيفن والت الكتاب الشهير "اللوبي الإسرائيلي وسياسة الولايات المتحدة الخارجية"، حيث نشر أيضا مقالا قال فيه إن الولايات المتحدة بدعمها لإسرائيل في إقامة مستوطنات تمنع قيام دولة فلسطينية قد ساعدت إسرائيل في ارتكاب "انتحار وطني" حيث سيشكل الفلسطينيون الغالبية في دولة واحدة ثنائية القومية.
من الجانب العربي نشر أحمد قريع مقالا في "القدس العربي" يوم 17 مارس 2012 دعا فيه الشعب الفلسطيني لإعادة النظر في حل الدولة الواحدة، بعد أن فشل حل الدولتين. وقد اتهم قريع إسرائيل بقطع رأس حل الدولتين ولم يبق أمام الفلسطينيين إلا التوجه نحو اعتماد برنامج يقوم على حل الدولة الواحدة. وقال "إن حل الدولتين أقرب إلى الحرث في البحر، إن لم أقل ملهاة سياسية طويلة". وقال :"لقد تمكنت إسرائيل، القوة القائمة على الاحتلال، من قطع رأس حل الدولتين في القدس قبل أن تشرع في تمزيق أوصاله في الضفة الغربية وفي إبقاء الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة".
مفهوم الدولة الواحدة عند الإسرائيليين
طرح فكرة الدولة الواحدة لم يعد من المحرمات في إسرائيل وهناك تياران واضحان يدعوان للتفكير الجاد في حل الدولة الواحدة ومن منطلقين مختلفين. هناك من يدعو للدولة الواحدة من منطلق حرصه على دولة إسرائيل، كي لا تتحول إلى دولة فصل عنصري (أبرثايد) على طريقة جنوب أفريقيا، وهذا يعني نهايتها، إذ أن العالم سيقف ضدها، وهناك من يدعو لقيام الدولة الواحدة بعد ضم الضفة الغربية تماما لدولة إسرائيل وإبقاء العرب في معازل والتضييق عليهم لدفع أعداد كبيرة منهم للهجرة وبالتالي تحل مشكلة الديموغرافيا.
يقول الكاتب يوناثان عامير في مقال كتبه في 23 مارس 2015، إنه من العبث محاولة إقناع الرأي العام الإسرائيلي بحل الدولتين. إذن لم يبق أمام إسرائيل إلا حل الدولة الواحدة، خاصة أن هناك 500000 مستوطن يعيشون في مناطق ما بعد الخط الأخضر، ولا حل أمام إسرائيل إلا إعطاء حق المساواة التامة للجميع. في الكنيست يوجد 78 عضوا يعارضون قيام دولة فلسطينية ولا يؤيدها إلا خمسة أعضاء من كتلة ميرتس و24 من حزب المعسكر الصهيوني. كما أن غالبية استطلاعات الرأي العام لا تؤيد قيام دولة فلسطينية.
أما كارولين غليك الكاتبة في صحيفة "الجيروسالم بوست" فنشرت كتابا بعنوان "الحل الإسرائيلي" تقلل فيه من أهمية الخطر الديمغرافي في حالة إعلان دولة واحدة. تقول إن الإحصائيات الفلسطينية تبالغ في عدد السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية، حيث لا يتجاوزون 1.4 مليون وضم هؤلاء لا يعني خسارة الغالبية اليهودية. فدولة واحدة قائمة على القوانين والعادات والتقاليد اليهودية هي الحل الأمثل للوضع القائم. ومن الملاحظ أن غلاة اليمين الإسرائيلي الذين يدعون إلى قيام دولة واحدة يستثنون غزة من عملية الضم، لأن نسبة السكان سترجح لصالح الفلسطينيين إذا ضمت غزة.
إن ما يجري على الأرض الآن من تهويد للقدس وإطلاق يد المستوطنين لإرهاب الشعب الفلسطيني ومصادرة المزيد من الأراضي وهدم آلاف المنازل في منطقة (جيم) والتعامل مع غزة ككيان منفصل- كلها إشارات توضح أين اتجاه البوصلة الإسرائيلية بعد أن استطاعت أن تدفن حل الدولتين أمام عيون العالم وبغطاء من جماعة أوسلو الذين أوصلوا القضية الفلسطينية إلى هذا المأزق الوجودي.
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز
د. عبد الحميد صيام