نشأت فكرة المجتمع المدني في العالم على يد منظرين رغبوا بوجود سلطة وسيطة بين الدولة والفرد ، وكان لنشأته وتوسعها أثر في فهم الواقع السياسي والديموغرافي والنفسي على حد سواء ، وتمت مواجهة الفكرة لسنوات طويلة من الدول والحكومات وأصحاب المصالح لكونها تمثل حجر عثرة في مسارهم .
اليوم توسعت فكرة المجتمع المدني في العالم، وباتت هذه المؤسسات الأهلية غير الربحية تنتشر انتشار النار في الهشيم في العالم الغربي والعربي ، مع فارق التوجه والرؤية وشكل العمل ومستوياته وحجم تأثيره في الواقع .
في عالمنا العربي ، ولدت الاتحادات والنقابات والجمعيات الأهلية والمؤسسات الأهلية غير الربحية ، ووجدت ملامح حركات اجتماعية في أكثر من بقعة جغرافية ،وفاق تعداد المؤسسات المدنية في دولنا العربية حتى فترة ما قبل الربيع العربي ما يناهز مائة ألف مؤسسة مدنية عربية .
لقد ولدت هذه المؤسسات بكل أسف في بيئة غير صحية ، وكانت ردات فعل من تيارات سياسية ، أو من جهات حكومية ، أو بفعل التشبيك الدولي الذي يتطلب وجود مثل هذه المؤسسات ، ولكنها ولدت بلا روح ، ولدت ميتة بالفعل ، حيث لا رؤية ولا رسالة ولا دور تعبوي ولا تنمية مستدامة ، بل مسميات ومبان ومؤسسات ومناصب لخداع المجتمع وامتصاص نقمته في بعض الأحيان ، وفي أحيان أخرى لإرسال رسائل للعالم الغربي أننا ديمقراطيون مستعدون لمرحلة ما بعد الحداثة .
وكما هو الحال دوما ، عند النوازل والملمات تظهر الحقيقة المرة ، وتكشف أوراق التوت التي كانت تستر عورات الواقع ، لنجد أنفسنا كشعوب بلا ظهر ولا سند ، ولنعيش في مرحلة ما قبل الثورة الصناعية ونحن فعلياً في زمن ما بعد الحداثة ، خدعونا وصدقناهم ، وعند الأزمة والنازلة وجدنا مصر وسوريا وفلسطين واليمن وتونس وليبيا وكل بلادنا العربية لا تملك منبراً واحداً يمكن له أن يكون منبراً تجميعياً تاثيرياً تلتف حوله الجماهير في القرى والأرياف والمدن والحواضر بثقة وأمان .
إن من أهم وظائف المجتمع المدني أن يكون الجسم الحامي للمجتمع ، وأن يصدر للمجتمع القيادات الحقيقية التي انطلقت من واقع الشعوب ومن آلامها ومعاناتها ، وأن يضع الخطط والخطط البديلة وخطط الطوارئ للتعامل مع الشعوب والحكومات والقوانين والأزمات والطوارئ ، بحيث تقوم كل مؤسسة بدورها ورسالتها ، سلماً وحرباً، فأين نحن من ذلك ?
لقد أصبحنا في واقع مرير بسبب تخلي قيادات المجتمع المدني عن دورهم ، فلا هم راقبوا أداء الحكومات وحاسبوها ، ولا هم تواصلوا مع تيارات العمل السياسي وقوّموها وصوبوا مساراتها، ولا افرزوا خياراتهم القيادية البديلة ، ولا صنعوا تنمية ولا أحدثوا فرقاً، فلما عصفت بنا الأزمات ، أخذت بعض الحكومات قرارات إغلاق مؤسسات العمل المدني بجرة قلم ، فلم يتحرك المجتمع لهم ، في دلالة على حجمهم الحقيقي وحجم تفاعل المجتمع معهم ، فمئات المؤسسات التي تغلق بتوقيع مسؤول ، لا جدوى منها في زمن انطلاق الرصاص بكل تأكيد .
إن الدول التي تعيش الأزمات اليوم مطالبة بتشكيل كيانات جديدة ، كيانات واعية راشدة تختزل الزمن في فهم دورها ورسالتها ، وعلى الدول التي يعمها نوع من الأمن والاستقرار أن تعي جيداً هذه الحقيقة فتبدأ بتصويب مسارها قبل فوات الأوان ، وقبل أن تقع الفأس في الرأس كما يقال .
بقلم المستشار د نزار نبيل الحرباوي