"اليوم التالي" لخطاب الرئيس

بقلم: هاني المصري

بعد خطاب الرئيس، تصاعدت المواجهات الفلسطينية في وجه الاعتداءات الإسرائيلية، واشتد الجدل حول وصف ما يجري، هل هي "انتفاضة"، أم مقدمة لانتفاضة، أم "موجة انتفاضية" ليس من المرجح أن تتحول إلى انتفاضة لأسباب عدة، منها أن القيادة تخشى  خروجها عن السيطرة، ومن نجاح إسرائيل في دفعها نحو مربع تتمكن فيه من استخدام تفوقها العسكري، وكما ظهر ذلك في خطاب الرئيس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ أكد بأنه سيعتمد الوسائل القانونية والسلمية، إضافة إلى أن إسرائيل لا تريد حتى الآن أن تدفع الأمور إلى تدهور شامل، بدليل التسهيلات التي أقدمت عليها ومستوى العنف الذي تستخدمه.

كما أن هناك أسبابًا أخرى حالت حتى الآن دون اندلاع انتفاضة، أهمها فقدان الأمل بإمكانية الانتصار. فالانتفاضات بحاجة إلى هدف قابل للتحقيق وإلى قيادة وتنظيم وجبهة وطنية وروافع اقتصادية واجتماعية وظرف مناسب. كما أنّ الانتفاضات يحرّكها الأمل الذي يفتح طريق النصر أكثر بكثير مما يحركها اليأس، الذي يمكن أن يفتح طريق الغضب وردات الفعل، وأعمال الدفاع عن النفس في مواجهة استشراس سلطات الاحتلال وقطعان المستوطنين.

لقد فقد الجمهور الفلسطيني أمله بإمكانية إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة على الأرض بعد أن تكثف الاستيطان، إذ أصبح هناك أكثر من 700 ألف مستوطن، ما يجعل الواقع السياسي والديمغرافي يختلف الآن عمّا كان عليه في الانتفاضتين الأولى والثانية، حيث يبدو الصراع الآن وكأنه بين المستوطنين الذين يدعمهم جيش الاحتلال وبين الفلسطينيين، وبعد اتجاه إسرائيل أكثر نحو التطرّف والعنصرية، وما يحرك حكومتها اعتقادها أنها أمام فرصة تاريخية لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه من أهدافها حتى الآن جرّاء الضعف والانقسام والتيه الفلسطيني، وعدم تحمّل القيادة أولًا والقوى ثانيًا لمسؤولياتها، وتغليب مصالحها الفردية والفئوية على المصلحة العامة، إضافة إلى وصول الإستراتيجيات الأحادية الفلسطينية إلى طريق مسدود من دون أن تجرؤ القيادة والقوى الفلسطينية على شق طريق جديد قادر على الحفاظ على القضية الفلسطينية حيّة وفي الصدارة، وتوفير مقومات الصمود والوجود البشري، وإحباط المخططات الإسرائيلية، والحفاظ على ما تبقى من مكتسبات، تمهيدًا للتقدم على طريق الأهداف والحقوق.

حتى خطاب الرئيس على أهمية ما جاء فيه لم يصل إلى حد فتح مسار جديد، بل حاول الجلوس بين كرسيين كلاهما تحت سقف أوسلو:

الحديث عن عدم إمكانية استمرار الأمر الواقع من دون الجرأة على نفض اليد كليًا من "عملية السلام"، بدليل عدم إلغاء الاتفاقيات مع التحذير والتهديد والتلويح بعدم الالتزام بها ما لم تلتزم بها إسرائيل، وعدم إلقاء القنبلة التي هدد بتفجيرها في خطابه، إضافة إلى التمييز بين "إعلان المبادئ" ورسالة الاعتراف التي يُراد الحفاظ عليهما كما فسر الخطاب مستشارو الرئيس والمقربون منه، وبين "بروتوكول باريس الاقتصادي" والترتيبات الأمنية التي يراد تغيير أو تعديل بعض بنودهما تحقيقًا لمبدأ التبادلية.

وبين الحديث عن وقف العمل بالالتزامات دون خطة واضحة، ما يعني إذا استمر الأمر على هذا المنوال أن الهدف محاولة تحسين الوضع مع انتظار نجاح مبادرة جديدة لاستئناف المفاوضات، وهذا لن يحقق في أحسن الأحوال إلا "أوسلو مُحَسّن".

إنّ غموض الخطاب وتناقضه وما يعكسه من غياب الخيارات، قد يؤدي إلى انزلاق الوضع إلى الفوضى من دون قرار، خصوصًا مع إدراك الجميع أن أي مبادرة جدية لإحياء "عملية السلام" الميتة متعذرة بسبب الموقف الأميركي، والعجز الدولي، والضعف والتشرذم الفلسطيني والعربي، وأن أقصى ما يمكن أن يحدث مجرد جولة جديدة من المفاوضات من أجل المفاوضات، وظيفتها التغطية على الموت السريري لما يسمى "عملية السلام" الذي وقع منذ أيار 1999 على الأقل، أي عند انتهاء الفترة المحددة للتوصل إلى اتفاق نهائي، مع أن هذا الاتفاق مات منذ أن أعلن إسحاق رابين بأن "لا مواعيد مقدّسة"، وتعمق بعد اغتياله عبر تنصل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من الالتزامات الإسرائيلية فيه.

لم يمنع اللاحسم الفلسطيني إسرائيل من وضع الرئيس بحكم عدم تجاوبه مع شروطها وإملاءاتها تحت دائرة الاستهداف، والشروع في عملية إسقاطه وإيجاد بديل أو بدائل منه.

لقد شكّل رفع العلم وما ينطوي عليه من مغزى انتصارًا للحق الفلسطيني، لكن لا يجب أن يخفي حقيقة ما يحدث من تراجع لمكانة القضية الفلسطينية عالميًا، بدليل سقوطها من كلمات أوباما وبوتين وأولاند، إضافة إلى أن كل ما تقوم به إسرائيل، خصوصًا في القدس وضد الأقصى، لم يؤد سوى إلى صدور بيان من مجلس الأمن يطالب "الطرفين" بضبط النفس وعدم اللجوء إلى العنف والتصعيد.

كما لم تشهد الدورة السنوية للأمم المتحدة – كالعادة - مبادرة دولية أو طرح مشروع قرار، بل حتى المبادرة الفرنسية جمّدت استجابة للرفض الإسرائيلي وانتظارًا لتحقيق الوعد الأميركي بإحياء الجهود لاستئناف المفاوضات بعد الانتهاء من تمرير الاتفاق النووي الإيراني. يضاف إلى ما سبق أن عدد الدول التي صوتت لصالح رفع العلم 119 دولة بينما أيّدت 138 دولة قيام الدولة الفلسطينية، وهذا يعكس التراجع في مكانة القضية رغم أنها لا تزال تحظى بالاهتمام المتزايد لدى الشعوب والرأي العام العالمي.

إن إسرائيل هي التي قتلت ما يسمى "عملية السلام"، ويجب أن تتحمل المسؤولية عن الجريمة، وأن تكون السياسة الفلسطينية البديلة المطالبة بعملية سلام جديدة مختلفة جذريًا، وليس استمرار الرهان رغم كل ما جرى على إحياء "عملية السلام" الميتة، التي يعني إحياؤها عودة الدوامة المدمرة للقضية الفلسطينية.

وحتى تنطلق عملية سلام جديدة لا بد من الكفاح لتغيير حاسم في موازين القوى، والعمل على إحداث تحوّل وتغيير إستراتيجي في كيفية التعامل مع كل الأمور، والانتقال من خانة سلطة الحكم الذاتي المحدود (التي فشلت وستفشل حتمًا لاحقًا بالتحول إلى دولة إذا استمرينا باعتماد نفس السياسات والأدوات والخطط) نحو إستراتيجية وطنية ترتكز على إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرر وطني، وبما يحفظ وحدتها مع الأرض والشعب ووضع البرامج ممكنة التحقيق في كل مرحلة، وصولًا إلى إنجاز الحقوق التاريخية.

وتستند هذه الإستراتيجية إلى وحدة وطنية تضم مختلف ألوان الطيف على أساس شراكة سياسية حقيقية تعطي كل ذي حق حقه، دون إقصاء أو هيمنة أو استئثار أو تفرد ولا تخوين ولا تكفير ولا احتكار للوطنية أو الدين، من خلال العمل على إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير بما يليق بمكانة القضية وكفاح الشعب الفلسطيني وتكون حقًا وقولًا وفعلًا الممثل الشرعي والوحيد له.

كما يتطلب التحول إلى إستراتيجية جديدة وضع السلطة في مكانها الطبيعي كأداة من أدوات المنظمة تخدم الشعب والبرنامج الوطني، لا أن تصبح عبئًا عليهما، وما يقتضيه ذلك من تغيير طبيعة السلطة وشكلها ووظائفها والتزاماتها، على أساس القناعة بأن إلغاء أوسلو لا يتم عبر خطاب حمّال أوجه، ولا باتخاذ قرارات دون النية أو القدرة على تنفيذها، بل هدف يجب أن تُضع له خطة لتنفيذه تفتح الطريق لعملية كاملة واضحة الهدف منذ البداية، ويتم تطبيقها على مراحل.

يمكن أن يكون ضمن هذه الإستراتيجية البدء بتصعيد المواجهات للاستعمار الاستيطاني العنصري، وتحميل المجتمع الدولي والدول المختلفة مسؤولياتها الجماعية والفردية لمعاقبة إسرائيل على احتلالها واستيطانها وتدفيعها ثمن الاستمرار في ذلك.

على القيادة الفلسطينية أن تتصرف كقيادة للشعب كله وليست قيادة للضفة وقطاع غزة، بما فيها أن تتصرف عمليًا كقيادة لكل المناطق وليس لمناطق (أ) و(ب)، بحيث تتجاوز القيود المجحفة والظالمة المترتبة على اتفاق أوسلو، ولو أدى هذا إلى الاشتباك مع الاحتلال، على أن تقوم الأجهزة الأمنية مع لجان الحراسة الشعبية بالتصدي لاعتداءات المستوطنين.

وعلى الدولة الفلسطينية أن تجسّد نفسها بفرض أمر واقع من دون انتظار تصريح أو اتفاق، بما في ذلك ممارسة سلطتها في مناطق (ج) من خلال البناء والاستثمار، وتعزيز صمود القدس، والتصدي للمخططات الرامية إلى استكمال تهويدها وأسرلتها، وووقف التنسيق الأمني التزامًا في البداية بمبدأ التبادلية، وتمهيدًا للتخلي الكلي عنه، ويمكن تغيير بنود الموازنة بحيث تتغير جذريًا بما يستجيب للاحتياجات والأولويات والمصالح الفلسطينية العامة، فمثلًا يمكن تقليل حصة الأمن المتضخمة جدًا بالتدريج وزيادة حصة الزراعة والصناعة والصحة والتعليم والضمان الاجتماعي ومكافحة البطالة والفساد وسوء الإدارة والمحسوبية، وتحسين الأداء، ووقف استيراد المحروقات من إسرائيل، خصوصًا أن "بروتوكول باريس" لا يلزمنا بذلك، ووقف اتفاقية الغاز، ومحاسبة الإسرائيليين المعتدين أو حتى المرتكبين للجرائم المختلفة، بما فيها مخالفات السير في المناطق المفترض أن تكون تحت السيطرة الفلسطينية.

كما يمكن تعزيز ودعم المقاومة الشعبية، وتبني المقاطعة، وتفعيل الانضمام إلى المؤسسات الدولية، خصوصًا محكمة الجنايات الدولية، والقرارات الدولية الصادرة لصالح الفلسطينيين، بما فيها وعلى رأسها الفتوى القانونية لمحكمة لاهاي، والاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية.

قد يقول قائل إن إسرائيل لن تسمح بتحول السلطة من سلطة تنسيق أمني إلى سلطة مقاومة أو مجاورة للمقاومة، وهذا يعني المواجهة. نعم، هذا ممكن، فالمواجهة ليست اختيارية بل مفروضة على الفلسطينيين، مع ضرورة أن تكون محسوبة وضمن إستراتيجية ومرجعية وطنية واحدة، وضرورية إذا أرادوا التحرر والعودة والاستقلال وهزيمة وتفكيك المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري، وهذا قد يؤدي إلى انهيار السلطة، الأمر الذي تخشاه إسرائيل إذا استمرت السلطة كما هي عليه حتى الآن.

لكن هناك فرق بين أن تُحل السلطة ليحل محلها الفراغ والمجهول الذي يمكن أن تملأه إسرائيل بإعادة ترتيب الحكم الذاتي الفلسطيني كما أعلن موشيه يعالون، وبين انهيار السلطة في سياق بلورة بدائل فلسطينية وطنية وسياسية واقتصادية واجتماعية، إذ تحل في هذه الحالة المنظمة بمؤسساتها التي يشارك فيها الجميع واللجان الشعبية والقيادة الموحدة على مستوى الوطن وفي كل منطقة محل السلطة، إذ لا يخشى المواطن من أن انهيار السلطة يعني انهيار كل شيء، وهذا يفتح طريق الخلاص ويعيد الثقة للمواطن وقيادته وقواه ومؤسساته.

هاني المصري

06 تشرين الأول 2015

[email protected]