من أين أبدأ بالحديث عن الصديق والرفيق والمعلم والشهيد ماجد أبو شرار، في ذكراه الرابعة والثلاثين، التي تمر كل عام في التاسع من أكتوبر بدون وقفة تذكر لا على المستوى الرسمي ولا على المستوى الشعبي، حتى تكاد الأجيال الشابة لا تعرف من هو ماجد ولم تسمع به ولم تتعلم من صلابته عندما يتعلق الأمر بالوطن، ورقته عندما يتعلق الأمر بالغلابى والفقراء.
هل أسرد شيئا من الذكريات الشخصية معه في نيويورك وبيروت ودمشق؟ أم من أقوال رفاق دربه أم من ذكريات ابنته سماء وابنه سلام، أو من كلماته ومجموعته القصصية الوحيدة “الخبز المر”؟ أم أركز على حادثة الاغتيال المشبوهة، حيث قضى قبل الأوان في سن الخامسة والأربعين، والحركة الوطنية الفلسطينية في أمس الحاجة إليه قائدا ومعلما ونموذجا وناسكا ثوريا نظيفا ورفيقا لكل المقاتلين في خطوط التماس، من قلعة شقيف إلى الناقورة. كان يقضي ساعات معهم ويحمل إليهم كتب النضال ويشجعهم على المطالعة والنقاش، ويؤكد لهم أن المناضل يجب أن يتمتع بحس ثوري ووعي شامل، فالسلاح لا يقاتل بل الإنسان المقتنع بضرورة حمل البندقية ويعرف متى وكيف وأين يوجهها.
ماجد الإنسان
ماجد فلاح بسيط استطاع أن يتسع قلبه لكل فقراء الكون. من بلدة دورا غرب الخليل انطلق ليصل العديد من العواصم والمدن العالمية من هافانا إلى صوفيا، ومن موسكو إلى براغ ومن نيويورك إلى بيغن. فتح عينيه على كروم العنب المعروف “بالدوري” والتين واللوز والمشمش والرمان في سفوح الجبال، بينما يلامس أفق البلدة الغربي في يوم صافٍ بحر غزة. تعرف على تفاصيل البلدة وقراها المجاورة وكان يحب منظر الماء يجري في وديان سويلم والقبيبة وهي تغيب باتجاه البحر.
في سن الثانية عشرة رأى بعينيه وطنه يُقسم وشعبه يٌمزق وسيلا من اللاجئين يصل البلدة بعضهم كان ينام في العراء أو قرب مزار النبي نوح. لم يكن صغيرا لينسى ولا كبيرا ليعرف الإجابات عن الأسئلة المعقدة. صدمه حاجز شائك أقيم في التخوم الغربية للبلدة، منعه من التقدم قيل له إن قطعة الأرض تلك التي يملكها فلاحو “قرية الصرة” أو “دير العسل” أو “بيت عوا” لم تعد لهم، بل لدولة أقيمت على بقايا شعبه وأشلاء وطنه. انتقل مع والده المناضل في صفوف الجهاد المقدس إلى قطاع غزة وهناك اشتد عوده ونضج في ظل صعود المد القومي وبداية تشكل العمل الفدائي. تعرف على الجزء الجنوبي من الوطن المقسم الذي يفيض فقرا ولاجئين. ومن هناك انتقل إلى الاسكندرية عام 1954 لدراسة الحقوق في جامعتها وليقضي أربع سنوات مهمة ساهمت في نضوج الوعي لديه، على وقع العدوان الثلاثي واحتلال غزة وتأميم القناة وصعود شعبية ناصر. عاد إلى دورا بعد تخرجه ثم عمل معلما في بلدة “عي” قضاء الكرك. وفي هذه الفترة تعرف على مجلة “الأفق الجديد” التي كان يصدرها مجموعة من اليساريين الفلسطينيين، ونشر فيها قصصه الأولى التي جمعت فيما بعد تحت عنوان إحدى قصصها “الخبز المر”. انتقل ماجد إلى السعودية ليعمل في صحيفة “الوحدة”. وفي عام 1962 التحق بحركة فتح وتفرغ نهائيا للحركة بعد انطلاق العمل الثوري من الأردن وأصبح مسؤول الإعلام الموحد ورئيسا للمجلس الثوري بعد المؤتمر الثالث للحركة عام 1971، ثم انتخب عضوا في اللجنة المركزية للحركة في مايو 1980 وأصبح عضوا في لجنة القطاع الغربي تحت قيادة خليل الوزير، إلى أن استشهد يوم التاسع من أكتوبر 1981. أصبح ماجد في فترة وجيزة من عمر الثورة الفلسطينية من أهم رموزها وأعظم مثقفيها وأبرع إعلامييها وأصدق قياداتها، ولذلك كانت تصفيته قاصمة الظهر.
ماجد رقيق كوردة منحاز إلى الفقراء دائما وصديق العمال والمعدمين ونصير المرأة والطلبة. يجلس بينهم ويحاورهم ولا يشعرهم أنه يعرف أكثر منهم. قدمته للجالية العربية الفلسطينية في منطقة نيويورك في العديد من اللقاءات والندوات فتوثقت العلاقة بيننا، عندما كان يزور مقر المنظمة الدولية كواحد من أعضاء الوفد. وفي أحد لقاءاته مع أبناء الجالية قال جملة لاقت الترحيب والتصفيق والوقوف، وكان يرد بها على أحد أعضاء الوفد المتهالكين على التسوية “أنا لست ضد أن نحاور أمريكا من موقع الند وعلنا، ونحن نجلس متقابلين على جانبي طاولة المفاوضات، لا أن ننام معها في السرير ونقيم معها علاقات سرية مشبوهة”. انجذبنا ونحن في بداية الشباب إلى فكر ماجد وخلق ماجد وتواضعه ورقته وحسن إدارته للحديث والنقاش والهدوء. وكلما زارنا في سبتمبر نرتب له سلسلة لقاءات مع الجالية وكأني به يحب هذه اللقاءات مع الناس الطيبين، ومعظمهم من الفلاحين، الذين يذكرونه ببلدته دورا. طرت إليه في بيروت وزرته في بيته وكان جديد العهد بزواجه من المناضلة العظيمة المرحومة إنعام عبد الهادي، التي حنت بجناحيها على ولديه سلام وسماء بعد وفاة والدتهما. أصر عليّ أن أرافقه إلى دمشق في سيارته وكان في طريقه لحضور مؤتمر الحركة الرابع عام 1980. كان ذلك آخر لقاء معه. صاعقة وقعت على رؤوسنا عندما علمنا بخبر استشهاده. “كلا فما صدق الناعي ولا الخبر”. لم أصدق قصة الاغتيال أولا. لكن القتل العمد جاء بعد انتخابه في المؤتمر الرابع لفتح عضوا في اللجنة المركزية، فاتسعت مهامه لتشمل القطاع الغربي مسؤولا عن منطقة الخليل، ولعل هذه المهمة هي التي عجلت في نهايته لأن العدو يعرف معنى أن يتولى ماجد هذه المهمة. أغلقت يومها مكتبي في الطابق السابع من مقر الأمم المتحدة وبكيت كالطفل ولسان حالي “كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر، فليس لعين لم يسل ماؤها عذرُ”.
ماجد المناضل
أعترف بأنني مدين في هذا الجزء لمن تعرفوا على ماجد عن قرب، حيث جمعت منهم مادة تكفي لكتابة كتاب، كما قلت لابنته سماء. تحدثت مطولا مع سماء وسلام ومع رفاق دربه وأصدقائه، ومنهم محمد أبو ميزر ومي صايغ ونزيه أبو نضال ورشاد أبو شاور وجيهان الحلو وجابر سليمان. كان ماجد يؤمن بأن حركة فتح هي الأنسب للنضال، لأنها كانت العمود الفقري للثورة ولها فضل السبق في إطلاق الكفاح المسلح. لكنه كان يعرف أن حركة فتح لمت في داخلها كل التيارات والاتجاهات. فيها الثوري والانتهازي واليميني واليساري والجاسوس والبطل والجبان. وكان لا بد من توحيد جهود أبناء فتح المخلصين من التيارات الجذرية واليسارية التي تتمسك بالكفاح المسلح من جهة وبالمرونة السياسية من جهة أخرى. كان ماجد قطب الرحى للتيار الوطني الديمقراطي، حيث تبلورت داخل الحركة ثلاثة تيارات واضحة المعالم. تيار متشدد يرفض كل أنواع التسوية ويعتبر أن أي تسوية لا بد أن تنهي الكفاح المسلح وتصفي القضية الفلسطينية. وتيار ثان يعتبر أن التسوية عن طريق الارتباط بحلفاء أمريكا في المنطقة هي أقرب الطرق لتحقيق دولة مستقلة. أما “تيار المنظور الثالث” الذي يمثله ماجد فكان يرى أن قيام سلطة وطنية يحتاج إلى 30 سنة من النضال، لذا فيمكن من ناحية تكتيكية القبول بالحل المرحلي، بدون التفريط بهدف إقامة الدولة الديمقراطية العلمانية ودون أن يكون هذا التكتيك على حساب التخلي عن الكفاح المسلح. لقد ظل يناضل ماجد من أجل وحدة التيار الديمقراطي داخل الحركة ويناضل من أجل وحدة الحركة ضد أي انشقاق ويناضل من أجل الوحدة الوطنية الفلسطينية التي كان يعتبرها أحد أهم أسلحة المقاومة الفلسطينية وأحد شروط الانتصار. وقد أكد لي كل من تحدثت معهم أنه لو كان ماجد في موقعه بعد الخروج من بيروت عام 1982 لما حصل انشقاق فتح في البقاع عام 1983 الذي سمي “فتح الانتفاضة” بقيادة أبو موسى وأبو خالد العملة.
نجح ماجد في توحيد كافة الاتجاهات المتنافسة داخل التيار الديمقراطي، استعدادا للمؤتمر الرابع قرب دمشق. في ذلك المؤتمر أصر ياسر عرفات على عدم إجراء انتخابات على من سماهم “العشرة البررة” الموجودين أصلا في اللجنة المركزية، وأجريت الانتخابات على خمسة فقط، وفاز فيها ماجد أبو شرار وقدري عن التيار الديمقراطي، ورفيق النتشة وهاني الحسن وسعد صايل. لقد نتج عن المؤتمر الرابع وحدة التيارات الديمقراطية داخل فتح. ولم تتمكن القيادة المهرولة نحو التسوية عبر مشروع الأمير فهد ذي النقاط الثماني من تسويقه، خاصة بعد أن وقف ماجد ضده منذ طرحه في أغسطس 1981 مدعوما من تحالفات داخل الحركة وخارجها، ما أدى إلى فشل مؤتمر فاس الأول (نوفمبر 1981) حيث عاد وانعقد المؤتمر بعد الخروج من بيروت مباشرة في سبتمبر 1982 وأقر النقاط نفسها، ولكن بعد غياب ماجد وتشتت قوى اليسار وانهيار القاعدة الأساسية التي كانت تمثلها بيروت للثورة الفلسطينية.
من الذي اغتال ماجد أبو شرار؟
لماذا اغتيلت معظم الشخصيات الجذرية والمؤثرة في مسيرة النضال الفلسطيني؟ لماذا استهدفت شخصيات مثل غسان كنفاني وكمال ناصر وكمال عدوان ومحمود الهمشري ووائل زعيتر وحنا ميخائيل وناجي العلي وحنا مقبل ونعيم خضر وعز الدين القلق وسعد صايل وعاطف بسيسو، ومن بعدهم خليل الوزير وآخرين؟ لماذا لم يتم التحقيق في اغتيال أي أحد؟ أيكفي أن توجه التهمة للموساد الإسرائيلي وكفى؟ ألا يوجد تقصير أو اختراق أمني أو تآمر داخلي أو إقليمي؟
سافر ماجد إلى روما بصحية رشاد أبو شاور ونزيه أبو نضال وغانم زريقات لحضور مؤتر للتضامن مع الشعب الفلسطيني. وصل ماجد فوجد حجزا له في فندق روما، حيث يعقد المؤتمر، ولكن له حجز آخر في فندق فلورا المعروف باستضافته لأنشطة صهيونية، وصورة شمعون بيرز وصاحب الفندق تتصدر صالون الاستقبال. قال ماجد لنزيه أبو نضال استعمل غرفتي هذه وأنا سأذهب للفندق الآخر. دخل غرفته متأخرا وما أن تمدد على السرير حتى انفجرت قنبلة تحته وأدت إلى مقتله على الفور.
بيروت خرجت برمتها تسير وراء الجنازة. قشعريرة سرت في جسم كل فلسطيني ولبناني وعربي ويساري يعرف ماجد. أحس الجميع بأنه فقد أخا أو ابنا أو قائدا أو رفيقا. بعضهم ذرف عليه دموع التماسيح، وبعضهم انتحب فعلا لأنه يعرف ما معنى غياب ماجد وقدرته على تجميع التيارات الوطنية وإجراء المصالحات بين الفصائل وتعزيز الوحدة الوطنية. ما أحوج شعبنا في مثل هذه الأيام، والتصادم مع القوى الفاشية والاحتلال في أوجه، أن نستلهم فكر ماجد ووضوح رؤيته وصلابة مواقفه وهاجس الوحدة الوطنية لديه، أحد شروط الانتصار كما كان يردد دائما.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز
د. عبد الحميد صيام