حتى نعرف الدور الذي أوكل لقيادة أوسلو وتتم محاسبتها على أساسه إسرائيليا وأمريكيا، يجب علينا أن نراجع بدقة البنود التي وردت في اتفاقية الاعتراف المتبادل التي تم توقيعها بتاريخ 9 سبتمبر 1993، بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. فتلك الوثيقة الخطيرة الأقرب إلى "وعد بلفور فلسطيني" تعطي إسرائيل كل ما طلبته مقابل جملة يتيمة تعترف فيها إسرائيل بـ"م.ت.ف" كممثل للشعب الفلسطيني، وستبدأ تتفاوض معها في إطار عملية السلام في الشرق الأوسط. فما هي مهمات القيادة الفلسطينية المفصلة حسب وثيقة الاعتراف المتبادل؟
1ـ تعترف م.ت.ف بحق دولة إسرائيل في العيش في سلام وأمن
2 ـ تقبل م. ت.ف. قراري مجلس الأمن 242 و338
3 ـ تلتزم منظمة التحرير بالحل السلمي بين الجانبين
4 ـ تدين م.ت.ف استخدام الإرهاب وأعمال العنف الأخرى
5 ـ تلزم م.ت.ف بفرض الانضباط وإلزام أفراد م.ت.ف بعدم انتهاك هذه الاتفاقيات
6 ـ تلتزم م.ت.ف بإلغاء كافة بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تنكر حق إسرائيل في الوجود وتتناقض مع الالتزامات الواردة في هذه الوثيقة. من هذه البنود جاء التنسيق الأمني وقمع المظاهرات، ووقف أي عمل مسلح أو عنيف. دور السلطة باختصار حماية أمن إسرائيل وإعفائها من مسؤولية الاحتلال وتبعاته مقابل بعض الوعود الغامضة.
ولكن كيف سوقت السلطة الاتفاقية للشعب الفلسطيني، الواقع تحت أشرس احتلال في التاريخ، من أجل أن يقف وراء القيادة ويستقبلها استقبال الفاتحين؟ لقد عممت القيادة من خلال أنصارها وأبواق إعلامها أن هذه الاتفاقية ستقيم دولة فلسطينية بعد خمس سنوات "شاء من شاء وأبى من أبى" وسيرفع شبل أو زهرة علم فلسطين فوق مآذن وكنائس القدس عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة. وستوقف هذه الاتفاقية الاستيطان ومصادرة الأراضي وهدم البيوت وسيخرج آلاف المعتقلين من السجون، وسيعم البلاد الخير وتنهال عليها الاستثمارات وتتحول فلسطين إلى هونغ كونغ جديدة، وتعم الأفراح والليالي الملاح، وسيصبح عدو الأمس صديق اليوم وشريك المستقبل.
تصادم التوقعات
كل ما جرى منذ دخول القيادة الأراضي الفلسطينية عام 1994 بمشروع غزة وأريحا أولا، إلى هبة القدس الأخيرة، عبارة عن مسيرة تصادم التصورات والتوقعات للأطراف الثلاثة: ماذا تتوقع إسرائيل من القيادة؟ ماذا توقع الشعب الفلسطيني من قيادة أوسلو وماذا جنى؟ وكيف تصورت القيادة دورها الموزع بين تصورين وتوقعين؟ لقد حاولت القيادة الفلسطينية أن تكسب ثقة الطرفين معا، بحيث تبقى إسرائيل أولا راضية عنها وأمريكا ثانيا من جهة، وفي الوقت نفسه تقدم نفسها على أنها قيادة نضال وطني تحرري، نقلت المواجهة مع العدو الإسرائيلي من المنافي في لبنان وسوريا وتونس واليمن والجزائر إلى جبال نابلس ورام الله والخليل والقدس. لقد كان ياسر عرفات يتقن الخطابين والدورين، فمن جهة يطير إلى تل أبيب ليعزي ليا رابين في مقتل زوجها ويقبل يديها، ومن جهة أخرى يسير في جنازة أحمد ياسين باكيا باعتباره شهيد فلسطين، يرسل خطابا للرئيس بيل كلينتون باستعداده لتقديم تنازلات كبيرة تتعلق بحق العودة وتبادل الأراضي، وفي الوقت نفسه يهمس في أذن مروان البرغوثي لتفعيل دور التنظيم وشهداء الأقصى. لكن هذه اللعبة لا تنطلي على إسرائيل فقد حمل شارون وثائق للرئيس بوش حول مكالمات عرفات في إعطاء أوامر تتعلق بالتحركات الميدانية أيام الانتفاضة الثانية، وصورا لشيكات مصروفة للتنظيمات المسلحة ووثائق صفقة سفينة كارين (أ) المحملة بالسلاح. بعد الاطلاع على هذه الوثائق أعلن الرئيس بوش "أن عرفات فقد دوره كشريك في المفاوضات"، وعندما عرض شارون على بوش فكرة تصفيته نهائيا قال له بوش إتركه للقدر، فرد شارون بأن التدخل الإنساني أحيانا يصبح ضرورة لمساعدة القدر. وهذا ما تم فعلا يوم 11 نوفمبر 2004.
أما المرحلة الثانية من قيادة أوسلو فقد حاولت أن تلتزم أكثر بالدور المنوط بها على أمل أن تحقق إنجازا تسوقه للشعب الفلسطيني، فبدأ التنسيق الأمني يتعزز، كما بدأ دايتون بتدريب قوات الأمن والشرطة لضبط الشغب، ولعب توني بلير وفياض دورا مميزا بتعميق التبعية الاقتصادية، عن طريق القروض المسهلة للشقق والسيارات. وقد وصل حد التذمر من أداء القيادة مداه المطلق عندما انتخب الشعب الفلسطيني حركة حماس عام 2006، ليس بالضرورة حبا في حماس أو أيديولوجيتها، بل لتوجيه صفعة حامية لأداء القيادة، خاصة في ظل انتشار الفساد والقمع وتغول الأجهزة الأمنية. واستمر الانفصام بين توقعات الشعب وأداء القيادة في ظل هجمة استيطانية غير مسبوقة وبرنامج شرس لتهويد القدس، كما استمرت إسرائيل في بناء الجدار العازل، رغم الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، الذي لم يتم استثماره على الإطلاق. كما أطلقت إسرائيل أيادي المستوطنين وجعلت منهم فرقة متقدمة لتنفيذ سياسات الدولة، مسلحين بالهمجية والحقد والسلاح الحي، لدرجة حرق الأطفال والشجر وتكثيف البؤر الاستيطانية. لكن الخطاب الرسمي للقيادة بقي يراوح حول إستحقاقات أوسلو في رفض العنف ورفض الانتفاضة والالتزام بالمفاوضات، سبيلا وحيدا لحل الصراع ومناشدة المجتمع الدولي والتوجه للأمم المتحدة والشعب الفلسطيني ينتظر وينتظر إلى أن حدث الانشراخ التام في هبة القدس الأخيرة، التي جاءت لتظهر أزمة القيادة الوجودية، بالإضافة إلى أنها صرخة احتجاج عالية الوتيرة ضد تمادي إسرائيل في تحقيق رؤيتها الانفرادية في حل الصراع، وهو دولة الأبرثايد لا غير.
لقد استغلت حكومة نتنياهو الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل، الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية لصالح رؤيتها تلك، التي يتم تنفيذها على الأرض، والقائمة أصلا على جعل قيام دولة فلسطينية مستقلة ومترابطة أمرا مستحيلا. ودعني ألخص مجموعة من التطورات بدأت تشعر إسرائيل في ظلها أن مسألة حسم الصراع مع الفلسطينيين بالطريقة التي تريدها أو تتخيلها أو تتمناها أصبح ممكنا.
ـ الانقسام الفلسطيني الذي يتعمق كل يوم وخلق أمر واقع في غزة أقرب إلى الغيتو تحت إمرة حماس.
ـ الحروب البينية في سوريا والعراق واليمن وليبيا وانشغال كل دولة عربية في شؤونها الداخلية بعيدا.
ـ الإجراءات المصرية الأخيرة بحفر أنفاق على امتداد حدود غزة مليئة بالماء لعزل غزة نهائيا، وهو هدف إستراتيجي لم تكن إسرائيل تحلم به منذ إنشائها.
ـ التقارب الخليجي مع إسرائيل بحجة الخطر الإيراني، الذي أصبح شبه علني، لدرجة أن نتنياهو في خطابه أمام الجمعية العامة أشاد بحلفائه العرب علنا، ودعاهم إلى "شراكة دائمة".
ـ تفاقم الحركات المتطرفة وانتشارها في المنطقة من "داعش" إلى "النصرة" ومن الشباب إلى أنصار الشريعة وأنصار الله وأنصار بيت المقدس وجند الإسلام وأجناد مصر وغيرها الكثير.
ـ دخول الولايات المتحدة السنة الانتخابية، التي عادة تستغلها إسرائيل في توسيع عمليات الاستيطان وابتزاز المزيد من الأسلحة والمساعدات الأمريكية، وتحول إسرائيل إلى مكان تعميد المنتخبين للكونغرس والمتنافسين على البيت الأبيض. إذن كانت الظروف مواتية تماما للتوجه نحو أخطر الأهداف الإسرائيلية وأكثرها إثارة للأحاسيس الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية، وهو موضوع الحرم الشريف، على أمل تقسيمه زمانيا ومكانيا كما حدث في الخليل. الفرق بين المدينتين أن الخليل كانت تابعة للسلطة الفلسطينية، واستطاعت القيادة أن توقع ذلك الاتفاق المذل والخطير، الذي جعل شمعون بيرس يصيح مبتهجا بعد التوقيع "لقد كسبنا معركة القدس"، بينما القدس وشباب القدس وأبناء فلسطين التاريخية لا يخضعون لإملاءات القيادة، ولا يأتمرون بأمرها، ولا صلاحية لها في القدس، وبالتالي انطلقت الهبة المقدسية، وهي بقدر ما هي موجهة ضد الاحتلال موجهة للقيادة الفلسطينية التي وصلت الحائط المسدود. لقد جاءت هبة الأقصى والقيادة الفلسطينية لا تستطيع التأثير على الأحداث، لا من قريب ولا من بعيد، ولا تسمع عنها إلا قصاصات من الأخبار تتعلق بسفر وزير أو استقبال ضيف أو صدور بيان مقتضب يناشد المجتمع الدولي لتأمين الحماية للشعب الفلسطيني، أو المشاركة في اجتماع لمجلس الأمن أو إلقاء خطاب.
لكن كل هذه التحركات لا ترجمة لها على الأرض لإنهاء الاحتلال. هبة الأقصى والقدس كانت مفاجأة الشعب الفلسطيني، المتقدم دائما على قياداته، للأصدقاء قبل الأعداء. فهذا شعب حيّ وشجاع ولديه استعداد عال للتضحية والاستمرار بالنضال بالوسائل المتاحة، وأنه قادر على قلب الطاولة ولخبطة الأوراق وإجبار الجميع على إعادة حساباتهم، والأخذ بعين الاعتبار مطالب هذا الشعب العنيد في الاستقلال والتحرر من الاحتلال، رغم كل العقبات التي خلقها العدو ووكلاؤه المحليون والإقليميون والدوليون.
خيارات القيادة
أمام هذه الأزمة الوجودية التي تمر بها القضية الفلسطينية، لا نرى أمام القيادة الأوسلوية إلا ثلاثة خيارات:
الخيار الأول: أن تمارس القيادة الحقيقية في قيادة انتفاضة سلمية شاملة ومتواصلة ومتصاعدة. تعلن القيادة مثلا أنها ستشارك الجماهير في مسيرات سلمية بمئات الألوف من أطفال ونساء ورجال بحماية الأمن الفلسطيني، وتتوجه المسيرة إلى الحواجز أو المستوطنات أو خطوط التماس على طريقة الشهيد زياد أبو عين. في هذه الحالة، وهي مستبعدة تماما، فستنقذ القيادة نفسها وذلك بالتخلى عن تصورات وتوقعات إسرائيل من أوسلو وتقترب من الآمال الفلسطينية.
الخيار الثاني: أن تعلن القيادة أنها وصلت إلى حائط مسدود وأنها تعتذر عن مصيبة أوسلو التي أوصلت الشعب الفلسطيني لهذا المأزق الوجودي، وأنها قررت الاستقالة وتضع مسؤولية الأرض المحتلة مباشرة على من يحتلها وبدون وكيل عنه. وهذا خيار مستبعد.
الخيار الثالث: أن تبقي على ازدواجية الخطاب بين ما تقوله للإسرائيليين وللأمريكيين وبين ما تقوله للفلسطينيين، ولكن على الأرض تعمل على الالتزام بشروط أوسلو التي ذكرناها من قبل، وتحاول أن ترضي طموح الفلسطينيين بخطوات صغيرة كجلسة مجلس أمن أو رفع العلم الفلسطيني أو تقديم ملف جديد لمحكمة الجنايات الدولية. وكل هذه الخطوات لا تقرب الفلسطينيين من حلم إقامة الدولة المستقلة المترابطة وعاصمتها القدس الشريف.
هذه هو الخيار الأرجح لجماعة أوسلو، وهو خيار لم يعد يقنع أحدا وأن طبخ الحصى وخروج البخار من "الحلة" لا يهدئ من الجوع. لقد آن الأوان لحسم الخيارات لصالح التصور العام للشعب الفلسطيني الذي لا يقبل بأقل من دولة حقيقية ومترابطة وذات سيادة بدون الأورام الاستيطانية والحواجز المذلة والتهديد بوقــــف تــــحويل أموال الضرائب والمداهمات الأمنية وتصدي رجال الأمن للمظاهرات السلمية، بدل قيادتها والانخراط فيها كما فعلوا أيام الانتفاضة الثانية. لقد آن الأوان لبدء العد العكسي لإنهاء الاحتلال فعلا لا قولا.
ـ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز بنيوجرزي
د. عبد الحميد صيام