طلبة المعاهد والجامعات خزان الانتفاضة
أبطال انتفاضة فلسطين المباركة وجنودها، والمضحون بأرواحهم من أجل القدس ومسراها، الذين تسطع أسماؤهم وتسمو أرواحهم كل يومٍ من الجنسين معاً، على مدى الوطن كله، ليسوا يائسين ولا محبطين يتحركون بلا أمل، وليسوا عاطلين وقاعدين عن العمل، وليسوا في الحياة هامشيين أو همل، كما أنهم لا يفتقرون إلى الرؤية والمعرفة، ولا إلى العلم والثقافة، ولا يشكون من انعدام الرؤية وضعف البصيرة، بل إنهم زهرة المجتمع الفلسطيني وقلبه النابض ومستقبله المشرق وغده الواعد، إنهم شباب الشعب النضر وجيله البِشِر، الذين يناط بهم الأمل، وتتطلع إليهم العيون، وتشرئب لهم الأعناق، إذ أن الأمل كبير في أن يكون الخلاص على أيدهم، والنجاة في مساعيهم، والنصر ببركة دمائهم وتضحياتهم.
يحق لنا أن نطلق على انتفاضة القدس الثانية أنها انتفاضة الطلاب، إذ تمور الجامعات والمعاهد الفلسطينية وتموج بشبابها وشاباتها كشرارات النضى، الذين يرصدون ويتابعون، ويدرسون ويخططون، ثم يقتحمون ويهاجمون، ولا يبالون بما ينتظرهم، ولا بالمصير المحتوم الذي يتربص بهم، فهم قد خرجوا لأجل القدس والمسرى، ونصرةً لفلسطين وأهلها، وثأراً وانتقاماً ممن اعتدى عليهم وبغى، وقتل واعتقل أهلهم وطغى، فلا يؤخرهم عن الدفاع عنها أحد، ولا يعطلهم عن الفعل والعمل الجاد شئ، إذ أن الرؤية عندهم واضحة، والغاية لديهم معروفة، رغم أنهم شبابٌ يافع، وأعمارهم غضة، وأيامهم في الحياة محدودة، إلا أن خبرتهم في الحياة ليست ضحلة، وأعوادهم على حداثة سنهم لم تكن يوماً أبداً طرية.
يكاد يكون أغلب الذين قاموا بعمليات الطعن والدهس، والشهداء الذين سقطوا في المواجهات، أو غيلةً وغدراً وثأراً وانتقاماً في الشوارع والطرقات، كلهم من الطلاب المتميزين المتفوقين، المنتظمين في الدراسة، والجادين في طلب العلم، من المنتسبين إلى مختلف الكليات والتخصصات العلمية، ومن أبناء العائلات العريقة والغنية، التي لا تشكو من فقرٍ ولا تعاني من فاقة، وممن كان ينتظرهم مستقبلٌ زاهرٌ وغدٌ مشرقٌ لو كانت بلادهم حرة، وإرادتهم مستقلة، ولا محتل يتحكم فيهم ويقرر في مصيرهم، ويضيق عليهم ويحرمهم من حقوقهم كشعبٍ يستحق الحياة في ظل دولةٍ مستقلةٍ وتحت راية علمٍ يرفرف.
وكما يتنافس الطلاب على التضحية والفداء، والعمل والعطاء، فإن الجامعات الفلسطينية تتنافس فيما بينها وتتبارى، أيهم يقدم طلاباً أكثر، وأيهم يكون اسمها أسمى وصوتها أعلى وعطاؤها أكبر وأعظم، ومقاوموها أشهر وأمهر، فكانت جامعة بيرزيت ذلك الصرح العلمي العالي، والمعهد الوطني الكبير الذي تخرج منه العديد من قيادات العمل الوطني الفلسطيني وكوادره الفاعلة، التي أفتخر أنني كنت يوماً أحد طلابها، وتشرفت بأن أكون حتى بداية انتفاضة الحجارة رئيساً للكتلة الإسلامية فيها، التي خاضت غمار العمل الوطني مبكراً، وقدمت أول شهيدين من طلابها، وهما جواد أبو سلمية وصائب ذهب، فكأنهما وهما الأوائل قد عبدا الطريق لمن بعدهما، وفتحا درب المقاومة للأجيال الطلابية اللاحقة، وأفسحا المجال لهم للتنافس والسباق، ومنها كان يحيى عياش، مهندس العمليات الاستشهادية، وصاحب الشهرة الأكبر بين رجالات المقاومة الفلسطينية.
لكن جامعة بيرزيت التي أحب والتي إليها يوماً انتسبت، لم تتوقف عند مهندسها الأشهر والشهيدين العلمين الأولين، بل توالى شهداؤها، وتخرج قياديوها، وتتابع طلابها، وقادوا في انتفاضة القدس الأولى والثانية الجموع وتقدموا الصفوف، وصنعوا الشعارات ووضعوا عناوين المرحلة، وألويات الشعب والقضية، ولحقت بها ومضت معها جامعة النجاح الوطنية، وهي التي لا تقل عن بيرزيت عراقةً وأصالةً، ووطنيةً وانتماءً، وسارت إلى جانبها في تنافسٍ رائعٍ، وعملٍ وطني عظيم، تكمل معها الطريق، وتفتح الجديد، وتشق دروباً كانت قبلهما عصية وصعبة، أو محصورةً في سواهم وممنوعةً عليهم، ولكنهما وهما الكبر في الضفة الغربية، كانا كفرسي رهان يتسابقان، وكتوأمين يتشابهان، يعطيان في تنافس، ويتقدمان في حب.
أما بقية الجامعات والمعاهد الفلسطينية الأخرى، الخليل وبيت لحم، والقدس المفتوحة ومعاهد البوليتكنيك والخضوري ورام الله، وكليات المجتمع العصرية وغيرهم، وهي التي تحتضن القطاع الأكبر من شباب الضفة الغربية وشاباتها، الذين ينتسبون إليها ويدرسون فيها، في الوقت الذي يمثلون فيه كل مدن الضفة الغربية وبلداتها، فما قصرت ولا هي تأخرت، وما كانت دون غيرها أو أقل من سواها مساهمةً ومشاركة، بل باتت وطلابها جميعاً يتسابقون ويتنافسون، ويعملون وينسقون، ويبتكرون ويبدعون، في صيرورةٍ لا تنتهي، وعملٍ لا ينقطع، وجهدٍ لا يكل، ونفوسٍ لا تمل، وأملٍ باقٍ في نفوسهم مهما تعمق الجرح وازداد الألم.
لا تقتصر المشاركة في انتفاضة القدس الثانية على طلاب الجامعات والمعاهد، وإن كانوا يشكلون السواد الأعظم فيها، بل إن طلبة المدارس الثانوية ومن هم دونها يتسابقون في المشاركة، ويسارعون لإثبات وجودهم وفرض دورهم، ورفع صوتهم عالياً لبيان حضورهم، وتأكيد فعاليتهم، ولعل حماستهم تفوق حماسة طلاب الجامعات، فهم لا يقلون عنهم وعياً وثقافة، ولا تنقصهم الشجاعة والبسالة، ولا الغيرة والحمية، ولا القوة والإقدام، ويرفضون أن يستثنيهم أحد، أو أن يعترض على مشاركتهم لحداثة سنهم أو لقلة خبرتهم، أو خوفاً عليهم ورأفةً بهم.
لا يستطيع أحدٌ أن يشوه سمعه الشهداء الطلاب، الذين نفذوا عمليات طعنٍ في القدس ومدن الضفة الغربية، ويتهمهم بأنهم كانوا يعانون في حياتهم، أو يشكون في دراستهم، أو أنهم كانوا منبوذين في مجتمعاتهم، أو غير مقبولين في بيوتهم وأسرهم، لهذا آثروا القيام بعمليات طعنٍ أو دهسٍ ينهوا بها حياتهم، ويتخلصوا من معاناتهم، وهذا محض كذب، وخرافة وسفاهةٌ يثيرها الإسرائيليون ويروجها إعلامهم.
بل إن هؤلاء الطلاب على العكس مما يشيع الإسرائيليون، وعلى النقيض من الصورة التي يحاولن أن يرسموها لهم، غذ تشهد سجلاتهم الدراسية على تفوقهم، ويروي جيرانهم ومعارفهم قصصاً كثيرة عن حيوتهم وروحهم الحلوة، وحبهم للحياة وإقبالهم عليها، ويتحدث أهلهم وذووهم المقربون عن طبيعتهم الجميلة، ومشاركتهم الدائمة، وإيثارهم الشديد، وغيرتهم على أهلهم، وملاطفتهم ومداعبتهم للصغار، وميلهم للمساعدة والتعاون، وعمل الخير والزيادة في الإحسان، بروحٍ وثابةٍ، وهمةٍ عاليةٍ، وقلبٍ طيبٍ لا يعرف غير الحب.
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي